الأستاذ الدكتور نزار الربيعي
عند النظر الى تاريخ التصوف الإسلامي ستجد انه ظهر في نشأته كسلوك تربوي يروم إلى تهذيب النفس وحثها على التحلي بالأوصاف المحمودة وترك الاوصاف المذمومة، فتناقلت آثاره الاخبار والمرويات فدونت فيها المؤلفات الى ان صار علما، فكتب فيه أصحاب الطريق كما كتب الفقهاء في الفقه وعلوم الدين، فظهرت كتب في الورع والزهد ومجاهدة النفس وتهذيبها.
لذا فان التصوف الإسلامي هو امتداد لحركة الزهد التي نشأت في القرنين الأول والثاني الهجريين، فالزهد إسلامي النشأة، القرآن الكريم والسُنّة النبوية الشريفة حثا على الزهد قال تعالى : ((زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)).
فهذه الآية الكريمة تحذر المسلمين من متاع الحياة وملذاتها كالنساء والابناء والذهب والفضة، لأنها تبعد العبد عن اخلاص العبادة لله، فما عند الله ابقى والحياة زائفة والجدير بالذكر ان مرحلة القرنين الثالث والرابع الهجريين، تطور الزهد لم يعد فرديا بل اصبح حركة منتظمة يطلق عليها التصوف واخذ الصوفية يتحدثون في مواضيع جديدة كالسلوك والمقامات والاحوال والمعرفة ومناهجها.
قال ابن خلدون في المقدمة (علم التصوف من العلوم الشرعية الحادثة في الملة واصله ان طريقة هؤلاء القوم لا تزال عند سلف الامة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحق والهداية، لقد تميز المقبلين على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة ، أما النهج والطريقة فهي نفس ما كان عليه الصحابة والتابعين ومن بعدهم، إلى ان قال، فظهر ان اصل طريقتهم كلها محاسبة النفس على الأفعال والتروك، فما علينا ان ندرك ان التصوف نشأ أول ما نشأ عبادة وزهدا واقبالا على الله وانا ما يدعوا اليه كان هو طريقة السلف الصالح عامة من الصحابة والتابعين.
ويعرفه الجنيد (رحمه الله) بقوله (التصوف تصفية القلوب عن مواقفه البرية ومفارقة الاخلاق الطبيعية، وإحماد صفات البشرية ومجانية الدواعي النفسية ومنازلة الصفات الروحانية والتعلق بالعلوم الحقيقية واستعمال ما هو أولى على الأبدية والنصح لجميع الامة، والوفاء لله على الحقيقة وهنا يمكن القول ان من المتوقع ان يؤثر التراث الصوفي الوجداني والروحاني على طبقة المثقفين نذكر من ذلك مثال مع انه من فترة متأخرة المؤرخ العراقي البغدادي الكبير ابن الساعي (ت674هـ/1275م) فقد تصوف سنة 608هـ/1211م في بغداد وعرف عنه في سيرته انه كان ((دمث الاخلاق محبوبا مجاملاً جميل السيرة محترما بين الخاص والعام مكرما عن ارباب الدولة العباسية)).
وان ما يحمله التصوف من نزعات إنسانية الممزوجة بالتعاليم الدينية بتذوق روحي اصبح من الطبيعي ان نجد المنتمين للتصوف هم من بيئات مختلفة من كافة طبقات المجتمع .
لقد ترك المتصوفة الجاه منهم الشبلي وهو من شيوخ المتصوفة في العراق فهو خير مثال على ترك الحياة زاهدا بأعلى مناصب الدولة وهو كان صاحب الخليفة سالكا طريق الزهد والفقر والتصوف وهذا صاحبه يحاوره (انك في الذروة العليا من قومك جاها ومكانةً وحسباً ولقد حباك حظ ما ظفر به سواك، فانت حاجب امير المؤمنين الخليفة الموفق وهي مكانة مرموقة لا تعلوها مكانة في الدولة وابوك حاحب الحجاب وحامل الاختام واسرتك اليها قيادة الخيل والوية الحرب وانت مع هذا وذاك في رونق شبابك وزهرة عمرك وفجر مالك فكيف سعى هذا الامر الى قلبك؟ وكيف انبثقت في دنياك تلك الخيالات التي صرفتك عن املك ومجدك! واني لأفتى إذا طال امرك ان يقصيك الخليفة عن عملك)) على ان الشبلي لم ينفعه هذا النصح لانه كان قد هجر دنيا الجاه والمال بلا عودة فالتصوف هو حاجة نفسية ودينية وروحية واخلاقية لافراد المجتمع العراقي بتذوقهم للأحاسيس والمشاعر ومن خلال روحيتهم في ممارسة الطقوس والشعائر الدينية.