الصحفي حيدر فليح الشمري .
في بيت صغير من بلدي العراق المزدحم بكثرة التوجهات ، وُلد طفل… لا يعرف من اللغة إلا لحنها ، ولا من الحياة إلا دهشتها ، عيونه تتّسع لما يُقال له ، وأذنه تحفظ الكلمات كما هي ، لكنه لم يُخلق ليكون مجرد مستقبلٍ صامت ، في أعماقه ، تنمو بذرة السؤال .
هل نسمح لتلك البذرة أن تنبت .؟
أم نغرس فيها الخوف من أن تُخطئ .؟
ثقافة الطفل ليست كتابًا يُقرأ له ، ولا أغنية تُحفظ عن ظهر قلب ، إنها تراكم التجربة ، والحرية في أن يُعيد تشكيل العالم وبلده كما يراه هو ، لا كما نُريد نحن أن يراه ، حين نسمح له أن يسأل : لماذا قالت الأم ما قالت .؟
أو هل كان الأمير على حق حين قتل التنين .؟
نكون قد بدأنا معه أول دروس النقد .
وليس النقد صراخًا أو عنادًا ، بل فنًا راقيًا في التفكير ، الطفل الناقد لا يعني الطفل المزعج ، بل الطفل الذي يرى أبعد من القشرة ، فيتذوق المعنى ، ويتساءل عن الغاية ، إنه لا يقبل الأشياء كما هي ، ولا يخاف أن يقول :
لا أفهم .
أو
لا أوافق .
كم نكبت تلك الأرواح الطرية حين قمنا بقمع أسئلتها بحجة الأدب .!؟
لقد علّمناه الطاعة ، لكننا نسينا أن نعلّمه التأمل ، أخبرناه كيف يردّد ، ولم نعلّمه كيف يصغي لصوت عقله ، قلنا له :
هذا صواب .
دون أن نقول له :
ابحث أنت عن الصواب .
ثقافة الطفل الناقد لا تُصنع في الكتب وحدها ، بل في الحوارات التي نحترم فيها عقله ، ونصغي فيها لأسئلته كما نصغي للكبار ، حين تسأله المعلمة :
ما رأيك في هذه القصة .؟
وتنتظر جوابه دون سخرية ، فإنها تبني فيه ثقة النقد .
النقد ليس تمرّداً ، بل فن البحث عن الحقّ ، وسط زحام العبارات .
وهو تربيةٌ تُكتسب بالتدريج ، عبر نقاشات الأسرة ، وبيئة المدرسة ، وأدب الطفل الذي لا يُحشو بالمواعظ ، بل يُثير فيه الدهشة والفضول .
ما أحوج مجتمعاتنا إلى جيلٍ لا يُصفّق فقط ، بل يسأل :
لِمَن نُصفّق .!؟
ولماذا .!؟
جيلٍ يتعلّم من صغره أن الفكرة لا تصبح صحيحة لأنها قيلت بصوت مرتفع ، بل لأنها عُرضت للنقد ، واجتازت اختبار العقل .
فلا تقتلوا في الطفل فضيلة السؤال ، ولا تقمعوا فيه حبّ الاعتراض الجميل ، علّموه كيف يختلف بأدب ، ويُفكر بشجاعة ، وينقد بحبّ .
علموه أن يقول :
لماذا .؟
ففي السؤال والجواب ، يولد باحث ، ويتكلم مثقف ، وينهض عالم ، و يموت خاضع .