إعداد – التآخي
جرت العادة أن تصنف بلدان العالم بتسميات متنوعة، وهذا التصنيف تركز في الأساس في ظل شروط معينة استلزمت وضع هذا البلد أو ذاك ضمن تقسيم معين؛ فجرى مثلا وضع بلدان الشرق الأوسط وأفريقيا وأميركا الجنوبية فيما يسمى بالعالم الثالث تمييزا لها عن غيرها.
فما هي مقاييس تلك التصنيفات وماهي الشروط التي يجب توفرها في بلد ما للانتقال الى مستوى أعلى او الانحدار الى ادنى مثلا؟
لا يتواجد معيار واحد ومحدد يمكن عده المقياس الوحيد لتقدم البلدان، فالأمر أعقد من ذلك بكثير ويتضمن عدة جوانب مترابطة. يمكننا أن نذكر بعض أهم هذه المقاييس، ومنها المقاييس الاقتصادية، اذ ان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، يعكس متوسط الدخل للفرد في البلد، وهو مؤشر مهم لمستوى المعيشة.
اما معدلات النمو الاقتصادي فتشير إلى مدى سرعة تطور الاقتصاد وزيادة الإنتاج، و كذلك التنوع الاقتصادي، يعكس مدى اعتماد الاقتصاد على قطاعات متعددة وعدم اقتصاره على قطاع واحد.
و مستوى التصنيع والتكنولوجيا، يشير إلى مدى تطور الصناعة واستعمال التكنولوجيا المتقدمة في الإنتاج والخدمات.
اما المقاييس الاجتماعية ومنها مؤشر التنمية البشرية (HDI)، وهو مؤشر مركب يقيس متوسط العمر المتوقع، ومستوى التعليم (متوسط سنوات الدراسة وسنوات الدراسة المتوقعة)، ومستوى المعيشة (نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي)، يعد هذا المؤشر من أهم المقاييس لأنه يركز على جودة حياة الأفراد.
وتعكس معدلات التعليم والإلمام بالقراءة والكتابة مستوى المعرفة والمهارات لدى السكان، وكذلك فان مستوى الرعاية الصحية، يشمل الوصول إلى الخدمات الصحية وجودتها، ومتوسط العمر المتوقع عند الولادة، ومعدلات وفيات الأطفال؛ ومستوى المساواة، يشمل المساواة بين الجنسين، والمساواة في الفرص، وتوزيع الثروة بشكل أكثر عدالة.
المقاييس السياسية والحوكمة
ويدخل ضمن العوامل المحددة لتطور البلدان، مستوى الديمقراطية، الذي يشتمل على تواجد انتخابات حرة ونزيهة، وحماية الحقوق والحريات الأساسية، وسيادة القانون، و مستوى الشفافية والمساءلة الذي يشير إلى مدى وضوح عمل المؤسسات الحكومية وخضوعها للمساءلة، وكذلك مستوى مكافحة الفساد يعكس مدى قدرة الدولة على الحد من الفساد الإداري والمالي.
اما مستوى الاستقرار السياسي فيشير إلى غياب الاضطرابات والصراعات الداخلية.
وتتضمن المقاييس البيئية، مستوى الاستدامة البيئية، الذي يشمل الحفاظ على الموارد الطبيعية وتقليل التلوث وحماية البيئة للأجيال المقبلة، و الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة الذي يشير إلى التحول نحو مصادر طاقة أنظف وأكثر استدامة.
هل يمكن لدول العالم الثالث اللحاق بركب الدول المتقدمة؟
الإجابة المختصرة هي نعم، من الناحية النظرية والعملية هناك إمكانية لذلك، ولكنها تتطلب جهودا حثيثة ومستمرة وتغييرات جذرية في شتى المجالات.
هناك عديد الأمثلة لدول كانت تعد نامية أو جزءا من “العالم الثالث” وحققت تقدما كبيرا وملحوظا على شتى الأصعدة، مثل بعض دول شرق آسيا (كوريا الجنوبية، سنغافورة، تايوان)، التي استطاعت في عقود قليلة أن تتحول إلى اقتصادات متقدمة ومنافسة عالميًا. فما هي العوامل التي تساعد دول العالم الثالث على اللحاق بالركب؟
انها تشمل الاستثمار في التعليم والبحث العلمي وبناء قاعدة قوية من الكفاءات والقدرات البشرية وتطوير المعرفة والابتكار، و تبني سياسات اقتصادية رشيدة بتشجيع الاستثمار، وتنويع الاقتصاد، وتحسين بيئة الأعمال، وتعزيز التجارة، و تعزيز الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد ببناء مؤسسات قوية وشفافة وخاضعة للمساءلة، وضمان سيادة القانون.
كما يتوجب الاستثمار في البنية التحتية وتطوير شبكات النقل والاتصالات والطاقة والمياه، و التركيز على التنمية المستدامة بتحقيق النمو الاقتصادي مع الحفاظ على البيئة وحقوق الأجيال المقبلة، و الاستفادة من التكنولوجيا ونقل المعرفة وتبني التكنولوجيا الحديثة وتطوير القدرات المحلية في هذا المجال، وتعزيز التكامل الإقليمي والدولي والاستفادة من الفرص التجارية والاستثمارية والتعاون مع الدول الأخرى.
ويستدعي كل ذلك تواجد إرادة سياسية قوية ورؤية واضحة اي قيادة ملتزمة بالتغيير والإصلاح ولديها استراتيجية واضحة للتنمية.
هناك كثير من التحديات التي تواجه دول العالم الثالث في سعيها للتقدم، مثل، الفقر والبطالة وعدم المساواة، و ضعف المؤسسات والحوكمة، و الاعتماد على قطاعات اقتصادية محدودة، و نقص الاستثمار في التعليم والصحة والبنية التحتية، و كذلك تأثير الصراعات والاضطرابات السياسية، و التحديات البيئية وتغير المناخ؛ وكذلك التأثيرات السلبية للعولمة.
ويمكن القول باختصار، إن اللحاق بركب الدول المتقدمة ليس مستحيلا، ولكنه يتطلب رؤية استراتيجية شاملة، وجهودا متواصلة، وإرادة سياسية قوية، وتعاونا فعالا على شتى المستويات. الطريق طويل ومليء بالتحديات، لكن بالإصرار والعمل الجاد يمكن تحقيق التنمية والازدهار.
تجربة كوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان
يمكن الحديث عن الظروف والعوامل التي اسهمت في نمو بلدان مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان، وكيف استطاعت تجاوز مشكلات البلدان النامية والالتحاق بركب التطور، فغالبًا ما يُشار إلى هذه الدول، فضلا عن هونغ كونغ، باسم “النمور الآسيوية الأربعة” نظرًا لنموها الاقتصادي السريع والمستدام.
وبرغم اختلاف السياقات التاريخية والجغرافية لكل دولة، هناك بعض العوامل المشتركة التي أسهمت في نجاحها، ومنها التركيز القوي على التعليم وتنمية رأس المال البشري فكوريا الجنوبية، استثمرت بكثافة في التعليم بجميع مراحله، مع التركيز على العلوم والتكنولوجيا. وأدركت القيادة الكورية أن العنصر البشري هو أهم مورد للتنمية في ظل محدودية الموارد الطبيعية، جرى توجيه جزء كبير من الميزانية نحو التعليم والتدريب المهني، وإيفاد الطلاب للدراسة في الخارج.
وكذلك سنغافورة، أولت اهتمامًا بالغًا بتطوير نظام تعليمي عالي الجودة يركز على المهارات التقنية واللغات. وسعت لجذب المواهب الأجنبية والاستثمار في تدريب وتأهيل القوى العاملة المحلية لتلبية متطلبات الاقتصاد المتنامي.
وركزت تايوان، على تطوير نظام تعليمي شامل اسهم في رفع مستوى المهارات والمعرفة لدى السكان، كما أولت اهتمامًا بالتعليم الفني والمهني لتلبية احتياجات الصناعات الناشئة.
اما فيما يتعلق بدور الدولة الفعال والسياسات الاقتصادية الرشيدة ففي كوريا الجنوبية، ادت الدولة دورًا محوريًا في التخطيط الاقتصادي وتوجيه الاستثمارات نحو الصناعات الاستراتيجية مثل الصلب، والبتروكيماويات، وبناء السفن، والإلكترونيات؛ واتبعت سياسات حمائية في المراحل الأولى لدعم الصناعات المحلية قبل فتح الأسواق تدريجيًا.
و سنغافورة، تبنت حكومة قوية وفعالة سياسات اقتصادية ليبرالية جاذبة للاستثمارات الأجنبية المباشرة، وركزت على تطوير البنية التحتية، وتوفير بيئة أعمال مستقرة وشفافة، ومكافحة الفساد، و تحولت إلى مركز تجاري ومالي عالمي.
اما تايوان فاتبعت سياسات اقتصادية تركز على التصدير والتصنيع، وتدخلت الدولة بشكل استراتيجي لدعم الصناعات الناشئة وتوفير الحوافز للاستثمار والابتكار.
و قامت هذه الدول باستثمارات ضخمة في تطوير البنية التحتية الحديثة، بما في ذلك الموانئ، والمطارات، والطرق، وشبكات الاتصالات، والطاقة. هذه البنية التحتية المتطورة اسهمت في تسهيل الأنشطة الاقتصادية وجذب الاستثمارات.
كما ركزت على التصدير والاندماج في الاقتصاد العالمي اذ تبنت هذه الدول استراتيجيات نمو موجهة نحو التصدير، مما سمح لها بالاستفادة من الأسواق العالمية وتحقيق عائدات كبيرة اسهمت في تمويل التنمية، و سعت إلى إنتاج سلع وخدمات ذات جودة عالية وقادرة على المنافسة في الأسواق الدولية.
وبرغم بعض التحديات في المراحل الأولى، تمتعت هذه الدول بشكل عام باستقرار سياسي نسبي وحكومات قادرة على تنفيذ السياسات الاقتصادية بفعالية. وكان هناك تركيز على بناء مؤسسات قوية وشفافة ومكافحة الفساد.
وكذلك قررت الاستفادة من الظروف الجيوسياسية ففي مرحلة الحرب الباردة، استفادت كوريا الجنوبية وتايوان من تحالفهما مع الولايات المتحدة، اذ حصلتا على مساعدات اقتصادية ودعم أمني اسهم في استقرارهما وتنميتهما.
كيف تجاوزت هذه الدول مشكلات البلدان النامية؟
بالتغلب على الفقر، فبوساطة طريق النمو الاقتصادي السريع وتوفير فرص العمل، تمكنت هذه الدول من خفض معدلات الفقر بشكل كبير وتحسين مستويات المعيشة لسكانها.
وبتنويع الاقتصادات، بدلاً من الاعتماد على قطاع واحد أو عدد قليل من القطاعات، قامت هذه الدول بتوسيع اقتصاداتها وتطوير قطاعات صناعية وخدمية متقدمة.
كما نجحت بتطوير القدرات التكنولوجية، اذ استثمرت في البحث والتطوير ونقل التكنولوجيا، مما سمح لها بالانتقال من إنتاج السلع ذات القيمة المضافة المنخفضة إلى السلع والخدمات ذات التقنية العالية، وعملت على بناء مؤسسات حكومية وقانونية قوية وفعالة تدعم النمو الاقتصادي وتحمي الحقوق وتعزز الشفافية، كما استثمرت في الصحة بتحسين خدمات الرعاية الصحية فاسهم ذلك في زيادة متوسط العمر المتوقع وتحسين جودة حياة السكان؛ ولقد استعادت تلك الدول دورها وموقعها المتقدم برغم الأزمة المالية الآسيوية في عام 1997.
ان تجربة النمور الآسيوية تقدم دروسًا قيمة للدول النامية الأخرى، وبرغم أن الظروف قد تختلف، إلا أن بعض المبادئ الأساسية تظل ذات صلة، مثل أهمية الاستثمار في التعليم، وتبني سياسات اقتصادية رشيدة، وتعزيز الحوكمة، والتركيز على الاندماج في الاقتصاد العالمي. ومع ذلك، من المهم أيضًا أن تتكيف كل دولة مع ظروفها الخاصة وتطور استراتيجيات تنمية فريدة تناسب تحدياتها وإمكاناتها، ويبقى الهاجس الاكبر هو سعي الدول النامية لتطوير نفسها والخروج من بوتقة العالم الثالث.
يشار الى ان العالم الثالث هو مصطلح سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي، يقصد به الدلالة على الدول التي لا تنتمي إلى العالمين الأول والثاني، وهي الدول الصناعية المتقدمة على عكس دول العالم الثالث النامية. وهي مجموعة دول كانت قد خضعت للاستعمار الأوروبي، وحققت استقلالها حديثا. استُعمل تعبير العالم الثالث لأول مرة سنة 1952 في مقالة صدرت للاقتصادي والسكاني الفرنسي ألفريد سوفيه في إشارة إلى الدول التي لا تنتمي إلى مجموعة «الدول الغربية» (أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية وأستراليا واليابان وجنوب إفريقيا) ولا إلى مجموعة الدول الاشتراكية “الشيوعية” (الاتحاد السوفياتي والصين وأوروبا الشرقية). وقد استوحى سوفيه هذه التسمية من الفئة الثالثة في المجتمع الفرنسي في أثناء النظام القديم وقبل الثورة الفرنسية.
وأحيانا يطلق على هذه الدول مصطلح «الدول النامية»، وهي دول ذات مستوى معيشي منخفض مقارنة بالدول المتقدمة، ولا يستقيم فيها التوازن بين سرعة نمو السكان ودرجة التقدم الاقتصادي، وتعاني هذه الدول من التخلف الاقتصادي، إذ يرى بعض الدارسين أن دول العالم الثالث هي التي لم تستفد من الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، وعلى هذا تعد دولا آخذة في النمو أو دولا متخلفة. وتسمى أيضا بدول الجنوب لكون أغلبها يقع في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية.
وفيما ترغب دول العالم الثالث منذ زمن بعيد في تحقيق النمو والتنمية، لتمكينها من أن تكون مثل دول العالم المتقدم والنامي، نجحت بعضها في حين لا زالت الدول الأخرى تعاني المشكلات بسبب التخلف.
وبرغم عديد الخطط التي تُطرح لتنمية دول العالم الثالث، إلا أنه ولسوء الحظ حين يتعلق الأمر بتطبيق الإستراتيجيات وتمكين الأحزاب بشكل أكبر، تكون الحكومة المركزية بطيئة، أو لديها تغييرات في منتصف الطريق، و تتعهد الحكومات بكثير من التغييرات الجيدة في مدة الحملات الانتخابية، لكنها لا تنفذ أيا من ذلك بمجرد وصولها إلى السلطة.
ومن ابرز المعوقات التي تمنع الدول من التطور بحسب الدروس المستخلصة، الفساد الذي أصبح شوكة في جسد عديد البلدان النامية طوال عقود طويلة، و الاضطراب السياسي، الذي يعوق تحقيق النمو والتنمية، فلا تجذب البيئة السياسية غير المستقرة المستثمرين الأجانب، وتنعدم ثقة السكان في الحكومة، فدول العالم الثالث تنفق كميات هائلة من الأموال والموارد وتهدر كثيرا من الوقت في السياسة بدلا من إطلاق برامج التنمية.
وبرغم أن الاقتصادات المتقدمة تجنبت تماما الحروب الأهلية، ما تزال دول العالم الثالث تستعمل الحروب لتعزيز الطموح السياسي، فبعض تلك الدول لم تشهد السلام والوئام لمدد طويلة.
وحققت الدول المتطورة نموًا بفضل فرض التعليم الإلزامي، كما تتأكد هذه الدول من أن الأشخاص الذين يتولون المسؤولية أكفاء ومختصون في مجالهم، فيما لا زالت الدول النامية بعيدة عن تبني نظم التعليم الحديث، إذ إن كثيرا من السكان يعدون التعليم الحديث فرضا للنفوذ الغربي، كما أن تلك الدول لا تعطي التعليم الاهتمام المطلوب.
وتسود القبلية أو العرقية في بلدان العالم الثالث، ويرجع ذلك إلى التنشئة الثقافية والانقسام السياسي، و ترغب كثير من القبائل دائما في السيطرة على اقتصاد البلاد، ونهب الثروات والموارد لصالحها وصالح أقاربها، وقد أدى ذلك إلى عدم المساواة في توزيع الثروات والموارد، والى منع الاستثمار الاجنبي من العمل والتحرك.
ودول العالم الثالث تعاني من نقص الغذاء والرعاية الصحية، مما يقلل من كفاءة السكان؛ و تقع معظم الدول النامية والمتخلفة في أفريقيا وآسيا في حالة صحية متخلفة، وتشترك القارتان في تفشي الأمراض فيهما.
و ما تزال كثير من بلدان العالم الثالث تعتقد أنها في حاجة إلى الاعتماد على المساعدات الأجنبية من أجل النمو، وبرغم أن ذلك صحيح جزئيا، إلا أنه ينبغي بدء الاعتماد على الموارد المحلية؛ لكن معظم القادة المحليين أكثر سعيا للحصول على المساعدات الأجنبية وهدر الاموال، بدلا من حشد السكان المحليين للعمل.