د. دژوار سندی
شهدت ثورة أيلول (1961–1975)، التي قادها الحزب الديمقراطي الكردستاني للمطالبة بالحقوق القومية للكرد في العراق، انتكاسة مؤقتة بتوقيع اتفاقية الجزائر عام 1975 بين إيران والعراق، بوساطة الرئيس الجزائري هواري بومدين. مثّلت الاتفاقية، التي حلّت النزاعات الحدودية بين البلدين، ضربةً للحركة الكردية، إذ أوقفت الدعم الإيراني النضال الكردي، مما دفع النظام البعثي العراقي إلى الاعتقاد بأنه قضى على المطالب الكردية إلى الأبد.
في هذا السياق، برزت حكمة القيادة التاريخية للحزب الديمقراطي الكردستاني، وعلى رأسها الزعيم مصطفى البارزاني، في تحليل التحولات الإقليمية والدولية، حيث أدركت أن الأنظمة الشمولية في طهران وبغداد، المبنية على قمع الحركات التحررية، لن تمنح الكرد حقوقهم دون ضغط نضالي متجدد بالتزامن مع ذلك، تجلّت إرادة البيشمركة وتضحيات شعب كردستان كعوامل حاسمة في إعادة تنظيم العمل الثوري، مما مهّد لإطلاق ثورة كولان في 26 أيار/مايو 1976، بعد أشهرٍ قليلة من انتكاسة ثورة أيلول.
التحضيرات والتكتيكات الجديدة:
بتكليف من قيادة الحزب، تولّى الشهيد إدريس البارزاني والرئيس مسعود البارزاني قيادة التخطيط للثورة الجديدة، عبر عقد سلسلة اجتماعات مع الكوادر الحزبية والقادة العسكريين لدراسة المستجدات الإقليمية. اعتمدت الاستراتيجية الجديدة على تفعيل العمل العسكري الموزّع عبر وحدات صغيرة من البيشمركة، منتشرة في المناطق الجبلية والنائية، مع تعزيز التواصل مع الجماهير الكردية التي أظهرت دعمًا لوجستيًا رغم الإمكانيات المحدودة.
ردود الفعل العراقية والإقليمية:
واجه النظام البعثي انطلاق الثورة بحملة قمع واسعة، شملت تعزيز التعاون الاستخباري مع إيران لمراقبة الحدود، وترحيل قسري لسكان مئات القرى الحدودية إلى مجمعات سكنية معزولة، كجزء من سياسة “التعريب” التي سبقت حملات الأنفال (1987–1988). بلغت الذروة في القمع باستخدام الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين، كما في مجزرة حلبجة (آذار/مارس 1988)، التي راح ضحيتها آلاف المواطنين الكرد، إلى جانب عمليات الإبادة الجماعية التي ادت الى استشهاد ما يزيد عن 180 ألف شخص.
المكاسب السياسية والتحوّلات الاستراتيجية:
رغم التكلفة البشرية الكبيرة، تركت ثورة كولان إرثًا سياسيًا عميقًا. ففي أعقاب انتفاضة آذار 1991 ضد النظام العراقي، أصدر مجلس الأمن الدولي القرار المرقم 688 (نيسان/أبريل 1991)، الذي أسّس مناطق حظر الطيران، مكّنت القيادة الكردية من تحقيق انتصارات كبيرة. توجّت هذه المرحلة بإعلان إقليم كردستان عام 1992، عبر انتخابات ديمقراطية، وتبني النظام الفيدرالي كإطار للعلاقة مع بغداد.
أصبح الإقليم، بقيادة الرئيس مسعود البارزاني، نموذجًا للاستقرار في العراق ما بعد 2003، حيث شاركت قوات البيشمركة في تحرير البلاد من نظام صدام حسين، وساهمت القيادة الكردية في صياغة الدستور العراقي. اقتصادياً، جذب الإقليم استثمارات دولية، وتميز بتطور بنيته التحتية وقطاعات الخدمات، رغم التحديات المتمثلة في خلافات مع بغداد حول توزيع الموازنة وإدارة الموارد النفطية.
الدور الإقليمي والدولي المعاصر:
يحتفظ إقليم كردستان بمكانة استراتيجية في المعادلات الإقليمية، بدليل وجود ممثليات دبلوماسية لدول كبرى في أربيل، وزيارات قادة العالم للإقليم، مما يعكس اعترافًا ضمنيًا بدوره كفاعل مستقل في سياسة الشرق الأوسط. ومع ذلك، تواجه حكومة الإقليم تحديات داخلية، مثل الأزمات الاقتصادية الناجمة عن قطع حصته المالية من بغداد، مما يفرض ضرورة إعادة هيكلة الاقتصاد المحلي.
إرث الثورة وتطلعات المستقبل:
تمثل ثورة كولان محطةً فارقة في النضال الكردي، حيث حوّلت الهزيمة العسكرية المؤقتة إلى حافز لإعادة بناء الحركة السياسية، مستفيدةً من التضامن الجماهيري وحنكة القيادة. وإن كانت التضحيات البشرية قد خلّفت جراحًا عميقة، إلا أن الإنجازات السياسية، مثل تأسيس كيان كردي معترف به دستوريًا، تؤكد أن الثورة أسست لمرحلة جديدة من النضال المؤسساتي. يبقى إرث قادة مثل الزعيم مصطفى البارزاني الخالد والشهيد إدريس البارزاني رمزًا لالتزام القيادة الكوردية بالدبلوماسية الواقعية، في مسار طويل نحو تحقيق الحقوق القومية.