جواد ملكشاهي
من ابرز سمات الشعوب التواقة للحرية والخلاص من الدكتاتورية والعبودية، هي قوة الإرادة والصلابة والعزيمة بغض النظر عن فقدان التوازن في القوى من ناحيتي القدرات العسكرية والإمكانيات الإقتصادية مع الخصم،وتحقيق انتصارات كبيرة تذهل العقل البشري.
الشعب الكوردي الذي تم تقسيم ارضه بين دول المنطقة،وفقًا لمصالح القوى الكبرى ورغمًا عن ارادته، لم يقف مكتوف الأيدي طوال القرن الماضي والى اليوم،ومايزال يكافح ويناضل بشتى السبل وفق متطلبات كل مرحلة، من اجل نيل حقوقه المشروعة والعيش بكرامة الى جانب شعوب المنطقة.
بعد انتكاسة ثورة ايلول العظيمة بفعل اتفاقية الجزائر المشؤومة التي وقعت في 6 آذار 1975، بين نظام البعث العراقي ونظام الشاه في ايران بمباركة الإدارة الأمريكية وتعاون الحكومة الجزائرية،ظن الكثيرون ان تلك الإنتكاسة هي نهاية الثورة المسلحة للشعب الكوردي في المنطقة، بقيادة الحزب الديمقراطي الكوردستاني.
ان صمود وصلابة الشعب الكوردي وعزيمته على المقاومة، وحكمة قائد الثورة البارزاني الخالد واصراره على ضرورة استمرار الثورة والكفاح المسلح، قد اثبتت فشل اتفاقية الجزائر التي اهدى فيها نظام البعث مساحات شاسعة من الأراضي العراقية الحدودية ونصف من شط العرب للنظام الأيراني في ذلك الوقت، مقابل غلق حدودها بوجه الثوار الكورد التي كانت المنفذ الوحيد لديمومة النضال.
لم تمض اشهر قلائل على الإنتكاسة، حتى عقدت قيادة الحزب الديمقراطي الكوردستاني وبأشراف قائد الثورة الخالد(مصطفى بارزاني) اجتماعات سرية داخل الأراضي الأيرانية التي كانت مراقبة من قبل جهاز مخابرات الايراني المعروف ب(السافاك)،اذ اجمع الحضور على ضرورة،انبعاث روح تفاؤلية جديدة بين ابناء الشعب الكوردي الذي كان محبطًا جراء الإنتكاسة، واندلاع ثورة جديدة كامتداد لثوة ايلول العظيمة (1961-1974)،حيث تم اتخاذ قرار نهائي للشروع في اعادة احياء التنظيمات الحزبية داخل مخيمات اللاجئين وفي القرى و المناطق الكوردستانية القريبة من الحدود الإيرانية، بأشراف الراحل (ادريس بارزاني) والرئيس مسعود بارزاني،فضلا عن عدد من القيادات الحزبية والعسكرية البارزة في ثورة ايلول وقيادات شابة جديدة، وبعد اتخاذ القرار، صدر بيان الحزب الرسمي في 10 كانون الأول 1975 تحت عنوان “كوردستان ساحة النضال الحقيقية”، مُوقعاً باسم “القيادة المؤقتة للحزب الديمقراطي الكوردستاني”، مؤكداً رفض الاستسلام واستئناف المقاومة.
وبعد اصدار البيان المذكور دخلت طلائع المفارز الأولية الى ارض كوردستان المقدسة وتم تقسيم المهمات، بين القياديين وتحديد الرقعة الجغرافية لكل قوة ومفرزة عسكرية، حيث تولى الرئيس مسعود بارزاني دورًا محوريًا في قيادة ثورة كولان الى جانب شقيقه الراحل( ادريس بارزاني) الملقب بمهندس السلام.
لا مجال للخوض في تفاصيل ثورة كولان العظيمة التي اندلعت في 26 آيار من عام 1976 ومجريات الأحداث والتحديات الكبرى التي واجهتها، بفعل التعاون الوثيق بين كل من ايران وتركيا وسوريا والنظام العراقي،لتقويض وتحجيم المفارز الأولية ومن ثم تشكيل قوات البيشمركة بعد التحاق البيشمركة القدامى واعداد كثيرة من الشباب الكوردي من اجزاء كوردستان الأربعة بالثورة، الا ان ثورة كولان التي كانت امتدادًا لثورة ايلول العظيمة حققت انتصارات ومكتسبات كثيرة ننعم بها اليوم ومنها:
تميزت الثورة بظهور قيادات شابة ودماء جديدة،ابرزهم كان الرئيس مسعود بارزاني، الذي كان يشرف شخصيًا على عمل ونشاطات الخلايا الحزبية والمفارز العسكرية في كوردستان، حيث كان ذلك بمثابة نقلة نوعية من النموذج التقليدي الى قيادة متجددة ، كما اسهمت الثورة في تعزيز ثقة الجماهير الكوردستانية في داخل وخارج الوطن بقيادة الثورة ودعمها بشتى السبل، ايمانًا منها،ان ارادة الشعوب لاتقهر،وانها لابد ان تنتصر.
لم تقتصر ثورة كولان على الجانب العسكري فحسب، بل طرحت رؤية سياسية جديدة لحل القضية الكوردية في العراق وربطتها باصلاح النظام السياسي في العراق بشكل عام، وتجاوز المطالب التقليدية المتمثلة بالحكم الذاتي، مع التركيز على ضرورة بناء نظام حكم ديمقراطي تعددي،تكون فيه الشراكة حقيقية بين مكونات الشعب،لبناء مجتمع عراقي حر يؤمن بتقبل الآخر على اساس تكافؤ الفرص وفق نظام المواطنة والحقوق والواجبات.
ومن منطلق قومي سعت قيادة ثورة كولان لجمع الأحزاب والقوى السياسية التي تشكلت بعد انتكاسة ثورة ايلول،للعمل معًا وفق رؤية كوردستانية مشتركة جديدة لتحقيق اهداف شعبنا، ومن المنطلق الوطني،سعت القيادة الى التحرك على قوى المعارضة العراقية بشتى توجهاتها، وفتحت ذراعيها للجميع من اجل مقارعة النظام الدكتاتوري وبناء عراق جديد يحتضن ابناءه من دون تمييز.
كما من اهم منجزات ثورة كولان العظيمة، هو تشكيل الجبهة الكوردستانية، من جميع القوى الكوردستانية المناضلة في الساحة،والتي شكلت اساسًا لإنتفاضة آذار عام 1991 والتي انتهت بتحرير كوردستان من براثن النظام البعثي وتأسيس منطقة آمنة بموجب قرار مجلس الأمن الدولي المرقم 688، والذي اسهم بدوره بأسقاط النظام الدكتاتوري واقامة كيان سياسي كوردي عام 1992 والتي تحققت من خلاله مكاسب عظيمة لشعب كوردستان، رغم استمرار المعاناة بسبب عدم التزام الحكومة الاتحادية بمواد الدستور العراقي الدائم الذي صوت عليه اكثر من 80% من الشعب العراقي بنعم.
ان ما يشهده اقليم كوردستان من مكانة مهمة ومرموقة في العراق والمنطقة وعلى المستوى الدولي، ودوره في التوازنات و تطويق التوترات والسعي من اجل ترسيخ الأمن والسلام في الشرق الأوسط والشراكات التي بناها مع القوى العظمى وغالبية دول العالم،والتطور الكبير الذي يشهده اقليم كوردستان في جميع القطاعات وعلاقاته الوثيقة بدول المنطقة والعالم، هي من ثمار ومنجزات ثورة كولان المجيدة التي تعد امتدادًا لثورة ايلول العظيمة.
تحية اجلال واكبار لمن قادوا ثورة كولان في ظروف معقدة وقاسية للغاية، وتحية وتعظيمًا لشهداء وبيشمركة كولان الذين كان لهم اسهام فاعل في تغيير موازين القوى في العراق والمنطقة وبناء كيان اقليم كوردستان الدستوري.