بين السياسة والاقتصاد: جولة مسرور بارزاني تضع كوردستان على خارطة القرار

د. ابراهيم احمد سمو

حين تتقاطع الثقافة مع التجربة، وتتداخل المفردات التي شكلتها قراءاتنا مع معطيات الواقع، نجد أنفسنا أمام مرحلة جديدة، مرحلة تتطلب البحث عن الممكنات لاكتشاف ما هو مفيد في خضم زحام المواضيع وتشعب النقاشات التي تملأ المشهد السياسي الكوردستاني.

تعددت القضايا، وتزاحمت الأولويات بين الاستقرار السياسي من جهة، وتنظيم الحياة الاقتصادية والاجتماعية من جهة أخرى. فكان لا بد من وقفة حقيقية لاختيار ما هو “أهمّ” في هذه المرحلة. فوقع الاختيار على محورين رئيسيين: الطاقة، والعلاقات الكوردستانية–الأمريكية.

في المقالات السابقة، تناولنا موضوع الطاقة من جوانبه المختلفة، وكتبنا بتفصيل عن أهميته الاستراتيجية وأثره العميق على الاستقرار الاقتصادي للإقليم. أما في هذا المقال، فنركز على العلاقات الكوردية–الأمريكية، من خلال زيارة رئيس وزراء إقليم كوردستان، السيد مسرور بارزاني، إلى الولايات المتحدة، ولقائه المهم مع وزير الخارجية الأمريكي، السيد “ماركو روبيو”، ونتائج اللقاءات التي عُقدت على هامش هذه الزيارة.
لقد شكّلت هذه الزيارة نقطة تحول في العلاقة بين كوردستان والولايات المتحدة. فبالجانب السياسي الذي أظهر انسجاماً وتوافقاً في وجهات النظر، برز البُعد الاقتصادي كرافعة أساسية لهذا التحرك الدبلوماسي، في لحظة يمر فيها الإقليم بأزمة اقتصادية خانقة. ولعلّ من أهم نتائج اللقاءات هو التأكيد المتبادل على المضي في دعم الشراكة بين الجانبين، في إطار الدستور العراقي، دون الإخلال بوضع الإقليم القانوني أو المساس بحقوقه.

السياسة ليست عيباً إن كانت في خدمة الشعب، والاقتصاد ليس تنازلاً إن كان هدفه تحقيق الرخاء. وما تقوم به حكومة ذكية هو ما فعله الإقليم تماماً: التوجه نحو دولة قوية مثل الولايات المتحدة، ليس فقط لما تملكه من نفوذ اقتصادي، بل لأنها تملك القدرة على إعادة رسم خرائط المنطقة بلحظة قرار.

وفي قلب هذه المعادلة المعقدة، يقف الإقليم باحثاً عن “الممكن” لا عن “المثالي”. الممكن في استمرار العلاقة مع العراق وفق ما نصّ عليه الدستور، والممكن في التوقيع على الاتفاقيات التي تتيح له استثمار موارده الطبيعية وتنشيط اقتصاده دون الخروج عن الإطار القانوني.

وفي واشنطن، تحقق هذا “الممكن”، عبر سلسلة اتفاقات ومباحثات تصبّ في صالح الخروج من الأزمة الاقتصادية، بشكل دستوري وشفاف.
البيان الصادر عن وزارة الخارجية الأمريكية لم يكن غامضًا أو قابلًا للتأويل. بل كان واضحًا في تأكيده على دعم كوردستان ضمن إطار الدستور العراقي، وعلى أهمية دور الإقليم في استقرار المنطقة. وفي المقابل، عبّر السيد مسرور بارزاني عن امتنانه لهذا الدعم، مشيدًا بتصريحات وزير الخارجية الأمريكي أمام الكونغرس، والتي شدد فيها على استمرار الدعم الأمريكي غير المحدود لكوردستان.

ومن النقاط البارزة التي حظيت بتقدير الجانب الأمريكي، ما قام به الإقليم خلال السنوات الماضية في ملف حقوق الإنسان، واستقبال اللاجئين والنازحين، وحماية الحريات الدينية. فقد أثمرت هذه السياسات ثمارها، وأصبحت نقطة مضيئة في سجل كوردستان أمام المجتمع الدولي، وخاصة في عيون الولايات المتحدة وأوروبا.
أما عن الملفات الاقتصادية، فقد تم بحث سبل تسريع تصدير النفط عبر أنابيب كوردستان–تركيا، إلى جانب وضع خطط مستقبلية لتنويع مصادر الاقتصاد، بما يواكب التحولات العالمية ويقلل من الاعتماد على النفط وحده.
كل هذا يمكن تحقيقه في عراق جديد، عراق فيدرالي حقيقي يعترف بالحقوق الدستورية لكوردستان. وفي هذه النقطة، يتحقق النجاح للطرفين: الإقليم، والدولة العراقية الفيدرالية إن أرادت أن تكون كذلك.

أما من يتابع الزيارة عن قرب، فيدرك أنها لم تكن زيارة بروتوكولية، بل خطوة جادة نحو إعادة رسم الخريطة الاقتصادية، وربما السياسية لاحقًا، وفق ما تفرضه المصالح والأحداث المتسارعة في الشرق الأوسط.
حكومة اقليم كوردستان أثبتت من جديد أنها حين تتحرك، تُفتح أمامها الأبواب. وحين تصمت، تبدأ الأصوات ترتفع ضدها، وتُفرض عليها الإملاءات. وقد عانى الكورد طويلاً من هذه الإملاءات، لا طوعًا، بل نتيجة ظروف قاهرة فرضت عليهم القبول بما لا يُقبل.
والجميل والمبشّر في هذه الجولة، كان الحضور السياسي المتوازن، حيث ضم الوفد شخصيات من الاتحاد الوطني الكوردستاني. هذه المشاركة أرسلت رسالة واضحة بأن كوردستان ليست طرفًا سياسيًا منفردًا، بل كيانًا موحدًا يضم كل مكوناته في مسار العمل السياسي والدبلوماسي، بما يخدم المصلحة العامة.
ونتمنى، بعد هذه الزيارة المهمة، أن تُستكمل الخطوات بتشكيل الكابينة الحكومية العاشرة بسرعة وفعالية، لنبدأ مرحلة جديدة من العمل، بجهد جماعي يواكب المتغيرات الإقليمية والدولية، ويستثمر كل فرصة سانحة.

ختامًا، إذا كانت السياسة فن الممكن، فإن كوردستان في هذه المرحلة تحاول أن تحوّل الممكن إلى واقع، بمزيج من الحكمة، والانفتاح، والشراكة المدروسة مع القوى الفاعلة في العالم
 

قد يعجبك ايضا