مِثلُ قَميصٍ مُعلَّقٍ على المِشجَب

مروان ياسين الدليمي

الجسدُ… هذه الخريطةُ التي خَطَّتْ عليها الحياةُ كلَّ شيء.
صار ضيّقًا عليّ،
كبدلةٍ، لم أعُد أرغبُ بارتدائها.
لم أعد أقرأ.
الصفحاتُ تحوّلت إلى غبارٍ ناعم
يُراكمُ نفسَهُ على الطاولة،
كما تراكمت الليالي في ظهري.
****
السماءُ لم تتغيّر،
لكن قلبي لم يعُد يرفعُ عينيه إليها.
الآن،
أُغلِق نوافذَ البيتِ قبل الغروب،
لا لأمنعَ الريح،
بل لأحفظَ بعضي من التلاشي.
****
الكتب؟
مربوطةٌ بخيطٍ رماديٍّ في ركنِ الخزانة.
القهوة؟
باردةٌ قبل أن تُشرَب.
الأصدقاء؟
كأنهم ظلٌّ يتقلّص في ذاكرةِ صورةٍ.
****
في البدءِ،
لم تكنْ تعرفُ أن الأشياءَ تنطفئ بهذه الطريقة،
مثلما تتآكلُ ورقةٌ في دُرجٍ مغلق،
ببطء،
وبلا شهود.
أنت الآن، في الصفحة البيضاء من دفترٍ لم يُكتَبْ بعد،تَمسِكُ القلمَ،
لكنْ لا جملةَ تأتي، ولا أحدَ ينتبهُ أنّ الكتابةَ توقّفت منذ زمن.
****
بالأمس… كنت تعرفُ الجهاتَ الأربع،
والصوتَ الذي تطلقهُ ضحكةٌ في زاويةِ المقهى،
والكلماتِ التي تتبادلها مع الغرباءِ في الحديقة،
دون أن تنظرَ في عيونهم.
هناك… كنت تُحب أن تمشيَ دون وجهة،
أن تقرأَ كتبًا لا تنتهي،
أن تلتقطَ صورةً لطفلٍ يعبرُ الشارعَ وحده،
أن تكتبَ أسماءَ الأحبةِ على بطاقاتٍ لا تُرسَل.

أتذكُر… كيف كانت المقاهي في مواسمِ الصيفِ مكانًا مليئًا بالنكات؟
أو ربما كانت النكاتُ محاولةً لملء فراغٍ يبتلعنا جميعًا،
ونضحك، لأننا نعرف أنه لا شيءَ آخرَ يمكن أن نفعله.
****
اليوم…
كلُّ مكانٍ أصبح مغلقًا خلف نافذةٍ مهشَّمة.
ثم تأتي اللحظةُ التي تُقرّرُ فيها أن تُغلِقَ بابكَ بإحكام،
ويبدأ العجزُ ينسحبُ إلى صمتك،
كما لو أن صوتك نفسَهُ قد توقّف،
أو اختفى في زحام المدينة، بينما كنت تراقبُها تختفي عنك.
اليوم، لا رغبةَ في شيءٍ نهائيًّا.
فقط صمتٌ يتّسع في الداخل،
كما يتّسع الحزنُ في بيتٍ بلا نوافذ.
****
هل تتذكّرُ اللحظةَ التي اختفتْ فيها الرغبة؟
ربما لم تكنْ لحظةً.
ربما كانت سلسلةً من الأفعال الصغيرة:
إغلاقُ كتاب،
تأجيلُ رسالة،
إطفاءُ مصباح،
ثمّ — لم تعد تفتحُ النوافذ.
****
تَحسب عددَ الأصدقاء كما تَعِدُّ المقاعدَ الفارغةَ في قاعةِ سينما،
واحد،
اثنان،
لا أحد.

ثم تبدأ تفكر:
هل البقاء هو الوفاء؟
أم أن الرحيلَ أصدق؟
أم أن كلَّ هذه الأسئلةِ عبثٌ يُضافُ إلى خزانةِ الأسئلةِ التي لم تُفتَحْ قط؟
أنتَ مُرتبكٌ في مكانٍ لا تدري كيف تبدأ فيه،
لا تعرف إلى أين ستذهبُ بعد أن تودّع هذا الزمان.
لا شيء يُوجع كما يُوجعُ هذا العبورُ البطيء.
تتذكّر وجهك في المرآة،
لكن لا تعرف من هو.
****
في المقاهي،
اعتاد النادلُ أن يضعَ فنجاني دون أن يسأل.
اليوم، لا أحد يفتقدني.
ولا أنا أفتقدهم.
****
زوجتي لا تعرف أنّني أفكّر في الرحيل.
ولا ابني.
وليس لأني لا أريد الموت، بل لأنني لا أريده أن يُؤذيهم.
“لا أريد أن أُتعِبَ أحدًا.
لا أريد لزوجتي أن تبكي.
لا أريد لابني أن يسأل نفسَه ألفَ مرة: لماذا رحل؟”
لكنك أيضًا… لا تريد أن تبقى كغبارٍ على صورةٍ معلّقة.
****
أتخيّل موتًا كغفوة،
بلا أوراق،
بلا مراسم،
بلا مديح.
أريد أن أخرجَ كما يخرجُ الضوءُ من الغرفة،
هامسًا،
هادئًا،
لا يتركُ أثرًا في الهواء.
أريد أن يبتسموا —
لا لأنّهم نسَوني،
بل لأنهم فهِموا.
تُريد أن تختفي،
كما تختفي الورقةُ البيضاءُ في الليل:
غيابٌ ناعم،
كأنك حُلمٌ زارهم في الليل، ثم نسوه،
لكنهم يبتسمون كلّما مرّوا من حيث كُنت.
تتمنّى شيئًا بسيطًا.
غفوة.
نومٌ بلا أرق،
ولا رسائلَ غير مكتملة.
تتمنى أن يُقال: “لقد تعب. دعوه ينام.”
ويُغلَقُ الدفتر… دون أن يشعر أحد.
****
هل قلتَ إنني لا أريد أن أُوجِعَ أحدًا؟
كنتُ أظنُّ أن الغيابَ جُرح.
الآن أعلم:
أن الغيابُ ، أحيانًا، نجاةٌ من الغرق.
أن الرحيل، كما أتخيّله، ليس سقوطًا، بل تخلٍّ طوعيٌّ عن كلّ ما لم يعُد يلمع.
****
الوقت لا يُداوي.
الوقتُ يمرّ، فقط.
كالنملِ على طاولةٍ مهجورة.
****
أُراقبُ صورتي مع جدّتي في السوقِ القديم.
وجهُها لا يخاف،لكنه لم يكن يعرف أنني سأحمل تعبَها عن غير قصد،كأنّ التعبَ يُورَّثُ مثل لون العينين.

تبدأ بكتابة جملةٍ، ثم تمحوها.
تُغلِقُ الكتاب، تفتحُ النافذة، ولا تقول شيئًا.
لأن لا شيء يمكن أن يُقال، حين يكون الصمت هو الجواب الأصدق.
وتتخيّل أخيرًا:
أن هناك غرفةً، في بيتِ جدّك.
هادئة،
خفيفة،
ينام فيها رجلٌ تَعب من التكرار.
وحين تفتح جدّتُك الباب، لا تبكي، بل تهمس: “أخيرًا… نال قسطه من الراحة.”
****
لا أحدَ يُعلّمُك كيف تنسحب من ذاتك.
تنظر في مرآة، ولا تعثر على ملامح.
تبدو كما لو أنك تراقب جسدًا يعرف طريقه وحده،وأنت تمشي داخله كضوءٍ ضعيف، خلف نافذةٍ قديمة.
وفي الداخل، هناك رجلٌ يجلس على حافة سرير.
يضع يدَه على قلبه، كمن ينتظر قطارًا لا يأتي.
ليس حزينًا، ولا خائفًا، فقط… فارغ.
كأن الداخلَ قد تمّ مسحُه، وما بقي هو الهيكل.

****
الموتُ ليس غريبًا.
إنه وجهٌ قديم، نراه كلَّ ليلةٍ حين نُغلِقُ أعينَنا، ونقول: “ليس الآن.”
يولد الموتُ خفيفًا،مثل شمسِ الغروبِ على حجرٍ قديم.
لا يصرخ، لا يقطع،بل يُغلق الستارةَ برفق، ويقول للغرفة: “نامي.”
أنا لم أطلبْ أكثر من نهايةٍ تُشبه غفوةَ طفل،بعد بكاءٍ طويلٍ على صدرٍ لم يَعُد.
****
كانت الأرصفةُ تحفظُ خُطانا.
اليوم،أمشي في بيتي ولا أترك أثرًا.
أُفكّر كثيرًا في أن أُصبح ظلًّا:
لا جسد،
لا صوت،
لا شوق.
فقط ظلٌّ يمشي على جدارِ غرفةٍ تعرفني.
أكتب أسماءهم على ورقةٍ صغيرة:
جدّتي،
زوجتي،
ابني،
ثم أطوي الورقة.
أضعها في جيب قميصي.
وأتخيّل أنّني سأرحل بها،ليعرف الله لِمن بكيتُ،وعلى مَن صمَتُّ كلَّ هذه السنين.
****
هذا الليلُ ليس أسود.
إنه رماديٌّ،كشَعرِ جدّتي حين كانت تُمشّطه بصمت، وكأنها تُمشّطُ ذاكرةَ أحدٍ آخر.
****
لي أُمنيةٌ واحدة:
ألا يبحثوا عني طويلًا.
ألا يسألوا كثيرًا.
أن يضعوا وردةً، واحدةً فقط، بجانب نافذتي المفتوحة.
لا أُريد نشيدًا.
ولا كلماتٍ عظيمة.
أُريد فقط أن تُكتَب جملةٌ صغيرة في دفترٍ لا يعرفني أحدٌ فيه:
“مرّ هنا رجلٌ كان لديه شغفٌ بالنور، لكنه اختار الظلّ، لأن قلبَه أرهقَه الضوء.”
ثم تُغلق الصفحة، كما يُغلَقُ كتاب، ويُعاد إلى الرّف، لكنّ أحدَهم، ذاتَ يوم، سيفتحُه،ويشمّ فيه رائحةَ الرسالة.
ولا شيء بعد ذلك، سِوى صمتٍ طويل، خفيف، كأن العالمَ كلَّه تنفّسَ أخيرًا ثم نام.
****
تُريد أن تُغادر بهدوء،
أن تتركَ مكانًا فارغًا من دون أن يسألَ أحدٌ أين أنت.
أن تكونَ رحيلًا يتسرّبُ ببطء من الزمن.
وتتمنّى أن يتمكّن الموت، كما لو كان عابرًا مؤقّتًا،
كما لو أنّه نومٌ بعدَ يومٍ محشوٍّ بالأسئلة التي لا جواب لها.
وتظلُّ تُحاول أن تتخيّل أنّ الفرح يمكن أن يأتي بعد الرحيل.

أنت لا تحتاج إلى وداع، بل إلى اختفاءٍ لا يُوقِظ أحدًا.
أن تُطفئ النور، وتمضي كأنك لم تكنِ الضوء، بل ظلَّه.
“أَن تَتْرُكَ جسدَك مُعَلَّقًا على المِشْجب،
مِثْلُ قَميص لَمْ يُسْتَعْمَلْ منذ الصَّيْف في العام الماضي.”
****
في آخر المساءِ،حين يصبح الصمتُ أعمقَ من أيِّ صوت،
تُدرك أنّ كلَّ هذا — الحياة ، الألم ، الانتظار —لم يكنْ إلا تمرينًا على الاختفاء.
المدينةُ التي تعرفها ستنساك، ولن تترك لك زاويةً على رصيفِها القديم.
كلُّ شيءٍ يبدو وكأنه يتحرّك، لكنك تبقى ثابتًا.
تظلُّ على حافةِ عتبةٍ وأنت تتساءل:
هل الحبُّ هو أن تظلَّ هناك، حتى ولو كنتَ تعرف أن كلَّ شيءٍ ينطفئ؟
هل الرحيلُ هو هزيمةٌ أم حياة؟
أم أن الحياة، رغم كلِّ شيء، هي بحثٌ عن مكانٍ مناسبٍ للراحة؟
****
تتخيّل لحظةَ الموت،
كخطوةٍ في الظلّ لا تتركُ أثرًا.
ليس المهمُّ مَن يبكيك، ولا مَن يفتقدك.
المهمُّ ألّا يحتاجَ أحدٌ إلى تفسيرِ غيابك.
المهمُّ أن يقولوا:
“لقد عاش. ثمّ تعب. ثمّ غاب. كما تغيبُ القصائد حين تُقال.”
****
تفتح الصفحةَ الأخيرةَ من الدفتر، وتكتبُ فيها بخطٍّ خفيف:
كلّ ما أردتُه، أن أكونَ خفيفًا حين أمرّ، كأنّي لم أُثقِلْ على أحد.
ثم تطوي الصفحة.
ولا أحد يسمعك وأنت تبتسم.

قد يعجبك ايضا