التحولات في كتابة الدساتير في العراق (1925–1970): من تمثيل محدود إلى سلطة مغلقة 

د. علي مهدي*

تميزت عملية كتابة الدساتير في العراق بتعدد الجهات المشاركة في صياغتها، بحسب طبيعة المرحلة السياسية وظروفها. ففي دستور 1925 كانت المسودة من إعداد مسؤولين بريطانيين، وناقشها المجلس التأسيسي، ثم صدرت بصيغة رسمية عبر الملك. أما بعد 1958، فقد تولت لجان ضيقة عند الصياغة، وناقشتها حكومات مؤقتة أو مجالس عسكرية. وقد غلب الطابع المركزي وغياب التمثيل الشعبي على معظم هذه التجارب، مما انعكس على مضمون الدساتير وشكل السلطة في الدولة.

 

أولا: دستور عام 1925 التأسيس تحت وصاية الانتداب
صدر دستور عام 1925 في ظل ظروف سياسية استثنائية، ارتبطت بشكل مباشر بمعاهدة عقدت بين العراق وبريطانيا، وهي معاهدة عام 1922، التي شكّلت الإطار المرجعي لولادة النظام الدستوري العراقي الناشئ. فقد اشترطت المعاهدة أن يتم سنّ “قانون أساسي” يُعرض على المجلس التأسيسي، على ألا يتعارض مع بنود المعاهدة، وأن يأخذ في الحسبان حقوق ومصالح جميع السكان المقيمين في العراق، دون تمييز على أساس اللغة أو الدين أو القومية. ويجب ان يعين هذا القانون الأساسي الأصول الدستورية، تشريعية او تنفيذية التي ستتبع باتخاذ القرارات في جميع الشؤون المهمة بما فيها الشؤون المرتبطة بمسائل الخطط المالية النقدية والعسكرية[1] (https://docs.google.com/document#heading=h.6kep2nvgzho6).
جاء في المادة الثالثة من المعاهدة أن “جلالة ملك العراق يوافق على أن يُشرع قانوناً أساسياً يُعرض على المجلس التأسيسي العراقي، ويضمن تنفيذ هذا القانون، شريطة ألا يتضمن ما يخالف نصوص المعاهدة، وأن يراعي الحقوق والرغبات والمصالح العامة للسكان…”. كما نصّت على ضمان حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية، بشرط ألا تخلّ بالآداب العامة أو النظام العام، فضلاً عن ضرورة عدم التمييز بين المواطنين.
بناءً على ذلك، شُرع في انتخاب المجلس التأسيسي، غير أن المحاولة الأولى باءت بالفشل نتيجة المقاطعة الواسعة التي قادتها الزعامات الدينية والسياسية احتجاجاً على مضامين المعاهدة. ورداً على ذلك، انتهجت الحكومة سياسة قمعية صارمة لقمع المعارضة، وأجريت انتخابات جديدة تمخض عنها تشكيل المجلس بنجاح.

وقد كان من شروط قبول العراقيين بتتويج الملك فيصل الأول أن تكون حكومته “دستورية تمثيلية ديمقراطية خاضعة للقانون”، وهو ما جرى تأكيده في خطاب العرش، وفي المادة الثالثة من المعاهدة، إضافة إلى التزامات بريطانيا الواردة في المادة الأولى من صك الانتداب، والتي نصّت على أن الدولة المنتدبة تلتزم بوضع قانون أساسي للعراق خلال فترة لا تتجاوز ثلاث سنوات من بدء الانتداب، على أن يُعرض على مجلس عصبة الأمم للمصادقة.
افتتحت الجمعية التأسيسية العراقية أعمالها في 27 آذار 1924، وكان من مهامها التصديق على معاهدة 1922 وإقرار أول دستور عراقي، إلى جانب قانون الانتخابات. وقد أُوكلت مهمة صياغة مسودة الدستور إلى عدد من المسؤولين البريطانيين، الذين اعتمدوا في الأساس على القانون الأساسي العثماني، مع الاستئناس ببعض النماذج الدستورية الأخرى.

تسلّم الملك فيصل في آذار 1922 مشروع الدستور، وأحاله إلى لجنة عراقية ضمت وزير العدل ناجي السويدي، ووزير المالية ساسون حسقيل، وسكرتيره الشخصي رستم حيدر. وقد درست اللجنة عدة دساتير ومنها الدستور الياباني لأجل إعداد مشروع يلائم الواقع العراقي، إلا أن الطابع العام للمشروع بقي مستمداً من الدستور العثماني. حيث كان معروفا أكثر من غيره لدى أعضاء اللجنة[3] (https://docs.google.com/document#heading=h.61a2obne385o).
وقد رأت اللجنة العراقية ان هذه المسودة لا تحاكي رغبات الشعب فعمدت الى تقديم مشروع دستور مستوحى في أهم مبادئه من الدستور العثماني والدستور الياباني[4] (https://docs.google.com/document#heading=h.gh7xreyumv9d).
إلا أن هذا المشروع لم يحظَ بقبول الجانب البريطاني، فاندلع خلاف بين الطرفين أُحيل على إثره المشروع إلى وزارة المستعمرات البريطانية في نيسان 1922 للفصل فيه.

أدخلت الوزارة تعديلات من شأنها تعزيز سلطة الملك على التشريع، وتم تشكيل لجنة عراقية – بريطانية مشتركة لتعديل المسودة، بما يضمن خضوع الوزراء لمساءلة مجلس النواب بدلاً من الملك، ترسيخاً للطابع البرلماني للنظام السياسي. وفي مراجعة ثانية، أعيدت المسودة إلى وزارة المستعمرات التي قامت بتنقيحها بما يمنح البريطانيين السيطرة غير المباشرة على المجلس النيابي من خلال صلاحيات الملك.
وقد عبّر وزير المستعمرات البريطاني آنذاك عن توجه حكومته بالقول: (وصلت الى نتيجة هي أنه يكفي في جميع الظروف ان يعطي الملك صلاحية إصدار تشريع عند الضرورة بشكل مرسوم يضمن تحقيق التزامات الحكومة العراقية المدرجة في المعاهدة، وان يشترط لهذا الغرض عدم الحاجة الى عرض المرسوم على مجلس الامة للمصادقة عليه). وقررت وزارة المستعمرات البريطانية أنه يتم قبول لائحتها المقدمة هذه بشكل نهائي.

استغرقت مناقشة مشروع الدستور ثمانية عشر جلسة في المجلس التأسيسي، بدأت في 14 حزيران 1924 وانتهت في 21 تموز من العام ذاته، وقد تشكلت لجنة لهذا الغرض تألفت من كل محافظة نائب، حيث أُقرّ الدستور بالإجماع.

التأثيرات الاجتماعية على تركيبة المجلس التأسيسي والحياة البرلمانية (1925)

شكّل المجلس التأسيسي العراقي حجر الأساس لنشوء الحياة البرلمانية في العراق، غير أن تركيبة أعضائه تأثرت بشكل كبير بالخلفية الاجتماعية والاقتصادية للطبقات الممثلة فيه، وهو ما انعكس على طبيعة التشريعات والمواقف السياسية اللاحقة.
فقد ضمّ المجلس 100 عضو، توزعت مقاعدهم على النحو الآتي: 20 مقعداً خُصصت للتمثيل العشائري، و 5 لليهود، و 5 للمسيحيين، فيما خُصصت المقاعد الـ 70 المتبقية لتمثيل سكان المدن والقرى. وكان معيار التمثيل أن يمثل كل نائب 20 ألف مواطن من الذكور، وفقاً للنظام الانتخابي المعتمد حينها.
ويُلاحظ أن أكثر من 50% من أعضاء المجلس كانوا من شيوخ العشائر وكبار الملاك، أي الفئة المرتبطة اقتصادياً بالأرض والزراعة، اجتماعياً بالريف، وسياسياً بالنظام القائم. وقد كانت هذه التركيبة جزءاً من سياسة منهجية اعتمدتها سلطات الاحتلال البريطاني، ولاحقاً سلطات الانتداب، في توطيد علاقاتها مع هذه الفئة المؤثرة، مقابل تعزيز مصالحها وضمان ولائها.
لذلك، صُمّم النظام الانتخابي بطريقة تُركّز على الأرياف، مستغلاً مركزية الأرض والملكية وموارد الري لتحقيق مكاسب انتخابية تصبّ في مصلحة الفئات الحاكمة.

أما النخبة المثقفة، فقد شكّلت نحو 29% من مجموع أعضاء المجلس، من بينهم حوالي 12% من حملة الشهادات الجامعية، وهي نسبة تعكس تمثيلاً يفوق نسبتهم الفعلية في المجتمع آنذاك. وقد ساهم هؤلاء في محاولة إضفاء طابع قانوني مؤسسي على أعمال المجلس، رغم محدودية نفوذهم السياسي.
في المقابل، شكّل التجار والوجهاء حوالي 21% من الأعضاء، وقد كان أغلبهم، بشكل مباشر أو غير مباشر، على صلة بالملكية الزراعية أو مرتبطين بعلاقات اقتصادية مع الدولة، خصوصاً مع السلطة البريطانية، نتيجة تداخل مصالحهم مع رؤوس الأموال الأجنبية.
ورغم أن المجلس التأسيسي نجح في وضع اللبنات الأولى للدولة العراقية الحديثة، وساهم في تأسيس الحياة البرلمانية، إلا أنه فشل في تحقيق التطلعات الوطنية الحقيقية، نظراً لهيمنة قوى اجتماعية واقتصادية محافظة على قراراته، وضعف الالتزام بالأسس الديمقراطية الفعلية، فضلاً عن التدخل المباشر للسلطة التنفيذية في عمله.

 

ثانيا: دستور عام 1958 لحظة الثورة والانفراد بالسلطة

يُعدّ عام 1958 نقطة تحول جوهرية في التاريخ الدستوري للعراق، إذ أدى نجاح التحرك العسكري في 14 تموز 1958، بقيادة تنظيم الضباط الأحرار، إلى إسقاط النظام الملكي وإعلان قيام الجمهورية العراقية الأولى، ما استوجب صياغة دستور جديد يُعبّر عن النظام السياسي الوليد ويعكس الفلسفة الثورية التي تبنّاها القادة الجدد.
بموجب هذا التغيير الجذري، لم يعد من الممكن العمل بالدستور الملكي لعام 1925، فلهذا لابد من صياغة دستور مؤقت ينظّم عمل السلطات خلال المرحلة الانتقالية. وقد تولى وزير المالية محمد حديد، ومحمد صديق شنشل، الاتصال بالقاضي حسين جميل[5] (https://docs.google.com/document#heading=h.ap03jdpyug97) يوم 20 تموز 1958 لتكليفه بكتابة مشروع الدستور. وعُهد بالصياغة إلى لجنة ضمت القاضي حسين محي الدين والقاضي عبد الأمير العكيلي.
استندت اللجنة في عملها إلى الدساتير العربية الحديثة، وبخاصة الدستور المصري المؤقت لعام 1956 الذي صدر عقب ثورة يوليو، والذي شكّل مصدر إلهام فكري وقانوني لقادة الثورة في العراق.

أُقرّ مشروع الدستور المؤقت في 27 تموز 1958 من قبل مجلس الوزراء، بعد إدخال تعديلات أصر عليها قادة الثورة، أبرزها نصّ المادة التي تُعلن الإسلام دين الدولة الرسمي، إضافة إلى نصّ يعتبر القوات المسلحة ملكاً للشعب، وهي صياغات ذات بعد رمزي تؤسس لشرعية وطنية جديدة.
تمتع مجلس الوزراء حسب الدستور بحق سن وإصدار القوانين بتصديق مجلس السيادة. في الوقت نفسه وحسب المادة 21 من الدستور العراقي المؤقت لسنة 1958. تولى مجلس الوزراء مهام السلطة التنفيذية. ان حصر السلطتين التشريعية والتنفيذية في قبضة مجلس الوزراء أضفت بالدرجة الأولى صفة شرعية الفردية لرئيس الوزراء، ممثل النخبة الحاكمة وهو أيضا القائد العام للقوات المسلحة ووزير الدفاع[6] (https://docs.google.com/document#heading=h.uq4nbhhriicl)
وبهذا أصبح رئيس مجلس الوزراء يتمتع بسلطات تنفيذية وتشريعية واسعة، ما أدى فعليًا إلى تأسيس نظام حكم فردي تحت غطاء جمهوري.

أما مجلس السيادة، فقد تألف من ثلاثة أعضاء هم:

1.   محمد نجيب الربيعي

2.   خالد النقشبندي

3.   محمد مهدي كبة

وتمت مراعاة تمثيل المكونات العراقية الكبرى في المجلس فاختير الربيعي رئيساً لمجلس السيادة (رئيساً للجمهورية، «عربي سني» وعضوية محمد مهدي كبة، عربي شيعي قومي التوجه وخالد النقشبندي  كردي.
بينما تألف مجلس الوزراء من شخصيات تمثل أغلب القوى السياسية التي كانت معارضة للنظام الملكي التالية أسمائهم:
عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء ووكيل وزير الدفاع، عبد السلام محمد عارف نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية. محمد حديد وزير المالية. مصطفى علي وزير العدلية. فؤاد الركابي وزير الاعمار. الزعيم الركن ناجي طالب وزير الشؤون الاجتماعية. الدكتور محمد صالح محمود وزير الصحة، الدكتور عبد الجبار الجومرد وزير الخارجية، بابا علي الشيخ محمود وزير المواصلات والاشغال، محمد صديق سنشل وزير الارشاد، الدكتور ابراهيم كبة وزير الاقتصاد، هديب الحاج حمود وزير الزراعة، الدكتور جابر عمر وزير المعارف.
تمثلت في تركيبة مجلس الوزراء الذي اقر الدستور، معظم القوى السياسية التي كانت معارضة للنظام الملكي، وان عدد العسكريين أربعة واحد منهم طبيب عسكري مقابل تسعة مدنيين من بينهم ثلاثة ممثلي أحزاب جبهة الاتحاد الوطني(حزب البعث، فؤاد الركابي، الحزب الوطني الديمقراطي، محمد حديد، حزب الاستقلال، محمد صديق شنشل، وتم استثناء الحزب الشيوعي احد أحزاب جبهة الاتحاد الوطني عن تشكيلة الوزارة)، وكان ضمن التشكيلة وزير من القومية الكردية، أي ان مجلس الوزراء في تركيبته قد راعى عدد من التنوعات القائمة في المجتمع العراقي. ومن ناحية التحصيل العلمي كان في التركيبة أربعة حاصلين على شهادة الدكتوراه، إضافة الى قاضي ومحامي ومهندس واقتصادي.
كانت الجهة المختصة لكتابة الدستور محدودة التمثيل تركز على ثلاث شخصيات، اما الجهة التي ناقشت وأصدرت الدستور كانت مختصرة على أعضاء مجلس الوزراء البالغ عددهم ثلاثة عشرة، ومن هذا يتضح ضيق الدائرة العددية للجهات التي أنيط لها كتابة وإصدار الدستور، وهذا النموذج سار عليه كل من تولى مقاليد السلطة حتى سقوط النظام عبر الاحتلال الأمريكي سنة 2003

 

استنتاج تحليلي حول دور مجلس الوزراء بعد 1958

بعد إعلان الجمهورية في 14 تموز 1958 وسقوط النظام الملكي، بدا كأن العراق يدخل مرحلة جديدة تُبشّر ببناء دولة حديثة تُدار وفق قواعد دستورية مستقرة. لكن الواقع السياسي والدستوري الذي تلا هذا الحدث، وتحديدًا ما ورد في الدستور المؤقت لعام 1958، كشف عن بداية انحراف مبكر عن المفاهيم الأساسية للدولة الدستورية، وأبرزها الفصل بين السلطات.
في هذا الدستور المؤقت، لم يحدد الإطار الزمني لنافذه وأيضا لم تُشكل سلطة تشريعية منتخبة او حتى مجلس غير منتخب يراقب أداء السلطة التنفيذية ويصادق على مشروعات القوانين، بل أُنيطت السلطتين التشريعية والتنفيذية بالكامل بمجلس الوزراء، وتحديدًا بشخص رئيس الوزراء. هذا التركيز للسلطات في يد جهة واحدة – تحت ذريعة المرحلة الانتقالية – حوّل الحكومة من جهاز تنفيذي إلى مصدر وحيد للقرار السياسي والتشريعي، وهذا في جوهره خروج عن أي تصور حديث للدستور كنظام يقوم على توزيع السلطة ومنع احتكارها.
لذلك، من منظور القانون الدستوري، فإن دستور 1958 المؤقت لم يكن فقط دستورًا انتقالياً، بل كان بداية تقليد دستوري غير صحي، تم فيه تهميش مبدأ الفصل بين السلطات وتغييب فكرة “الدستور كعقد اجتماعي”. هذا ما يفسر هشاشة البنية السياسية والدستورية في العراق لعقود طويلة، إلى أن جاءت محاولات جديدة بعد 2003 لتأسيس دستور دائم، في ظروف صعبة، و بأعباء ثقيلة ورثها من تلك المرحلة.

ثالثا: دستور عام 1963 عسكرة الدستور وتراجع التمثيل

جاء انقلاب 8 شباط 1963 ليمثل محطة مفصلية في التاريخ الدستوري العراقي، إذ أطاح بالحكم القائم وأعاد الجيش مجددًا إلى الواجهة كقوة فاعلة في تقرير مصير الدولة. وقد سارع قادة الانقلاب، الإعلان عن تأليف “المجلس الوطني لقيادة الثورة” الذي خُول بممارسة السلطة العليا في الجمهورية العراقية بما فيها السلطة التشريعية وصلاحيات القائد العام للقوات المسلحة وانتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة:
تشكيل المجلس الوطني لقيادة الثورة
في سياق التحضيرات المسبقة لانقلاب 8 شباط 1963، طُرحت فكرة تأسيس “المجلس الوطني لقيادة الثورة” كأعلى سلطة انتقالية، وذلك من قبل “المجلس الاستشاري العسكري” في مطلع عام 1962. وقد تقرر أن يكون أعضاء هذا المجلس الاستشاري هم النواة الأساسية للمجلس الوطني عند تشكيله. ومن أبرز هؤلاء: أحمد حسن البكر، صالح مهدي عماش، خالد مكي الهاشمي، عبد الستار عبد اللطيف، ذياب العلكاوي، حردان التكريتي، وعبد الكريم مصطفى نصرت، إلى جانب ثلاثة من أعضاء القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي، وهم: علي صالح السعدي (أمين سر القطر)، حازم جواد، وطالب حسين الشبيب.

لاحقًا، أضيف كل من منذر توفيق الونداوي في أيلول 1962، وعبد السلام محمد عارف قبيل أيام من تنفيذ الانقلاب وبعد نجاح الانقلاب، انضم أنور عبد القادر الحديثي وطاهر يحيى التكريتي إلى المجلس تقديرًا لدورهما في السيطرة على معسكر الرشيد يوم الانقلاب
يُلاحظ في تكوين هذا المجلس أن الغالبية العظمى من أعضائه كانوا من العسكريين، حيث بلغ عدد المدنيين ثلاثة فقط، وجميعهم من القيادة القطرية لحزب البعث. كما أن معظم الضباط المنضوين ضمن المجلس كانوا حديثي الانتماء إلى الحزب، باستثناء بعض الأسماء مثل صالح مهدي عماش ومنذر الونداوي، في حين لم يكن عبد السلام محمد عارف منتمياً للحزب أساسًا[7] (https://docs.google.com/document#heading=h.9tekpgyqebdn).

ويُشير طالب شبيب، أحد أعضاء القيادة القطرية، إلى أن “قانون المجلس الوطني لقيادة الثورة” صاغه حسين جميل بتكليف من حازم جواد، وذلك بعد أن تم وضع الخطوط العامة له من قبل القيادة. وبهذا، نشأ المجلس الوطني لقيادة الثورة بوصفه السلطة العليا في البلاد عقب الثورة، وقد مُنح صلاحيات مطلقة دون خضوعه لرقابة أو تحديد دستوري واضح، الأمر الذي يعكس غياب الإطار الدستوري المؤسسي في تلك المرحلة الانتقالية[8] (https://docs.google.com/document#heading=h.ylc96txmoqja).

ومن هذا يتضح ان الجهة التي كتبت مسودة قانون المجلس الوطني لقيادة الثورة، هي نفسها التي كتبت دستور 1958، وان الجهة التي ناقشت وأصدرت القانون اقتصر على أعضاء المجلس الذين معظمهم عسكريين بعثيين باستثناء رئيس الجمهورية، وبهذا تقلص التنوع الذي كان قائم بالمقارنة مع دستور 1958. حيث لم نجد تمثيل للأكراد ولا للقوى السياسية الأخرى.
ومن المثير للاهتمام أن أسماء أعضاء المجلس لم تُعلن رسميًا للرأي العام، ما يشير إلى الطابع السري أو الاحتكاري للسلطة، ويطرح إشكاليات دستورية تتعلق بشرعية التمثيل، وشفافية مراكز اتخاذ القرار في الدولة.

أثر تشكيل المجلس الوطني لقيادة الثورة على مسار كتابة الدساتير في العراق
إن التكوين العسكري الغالب على المجلس الوطني لقيادة الثورة، وطبيعة نشأته بعيدًا عن آليات الشرعية الدستورية التقليدية، كان له تأثير جوهري على مسار كتابة الدساتير في العراق في المرحلة التي أعقبت انقلاب 8 شباط 1963. فقد استُبعدت المؤسسات المدنية والقانونية القائمة آنذاك، وتُركت عملية صياغة السلطة الانتقالية بيد مجلس لا يُمثّل الشعب بشكل ديمقراطي ولا يستند إلى تفويض شعبي أو دستوري واضح.
هذا الانفراد العسكري بالسلطة أنتج بنية سياسية انتقالية اتسمت بالمركزية الشديدة وغلبة القرار الفردي أو النخبوي، وأدى إلى تغييب الإرادة الشعبية والمؤسساتية في كتابة الدستور أو حتى وضع مسودة له. كما أن تغييب الإعلان عن أسماء أعضاء المجلس، وعدم خضوعه لأي شكل من أشكال الرقابة أو المساءلة، يعكس طابعًا سلطويًا في إدارة المرحلة الانتقالية، مما قوّض فرص بناء دستور دائم يعبر عن التوافق الوطني.
وما يميز قانون المجلس الوطني لقيادة الثورة عن الدستور المؤقت الصادر في تموز 1958 في جانب تشكيلات الدولة أنه فصل بين السلطة التشريعية التي يمثلها المجلس عن السلطة التنفيذية بعكس ما كانت علية السلطة التنفيذية في دستور 1958 التي جمعت صلاحيات السلطات التشريعية والتنفيذية معا في قبضتها.

رابعا: دستور عام 1964 تكريس الحكم الفردي العسكري
في أعقاب أحداث 18 تشرين الثاني 1963، والتي شهدت صراعاً داخلياً بين أجنحة السلطة آنذاك، تمكّن الجيش العراقي من السيطرة مجدداً على مقاليد الحكم، مُنهياً بذلك هيمنة “الحرس القومي” التي سادت بعد انقلاب شباط 1963. وقد جاء البيان رقم (1) الصادر عن المجلس الوطني الجديد لقيادة الثورة ليؤكد بداية مرحلة دستورية جديدة، عنوانها تكريس الحكم العسكري بقيادة رئيس الجمهورية.
وبناءً على ما ورد في البيان، تم تشكيل مجلس جديد بقيادة رئيس الجمهورية، ضم كبار الضباط والقيادات العسكرية، و أنيطت به مسؤولية رسم السياسات العامة للدولة. ضم المجلس:

أولا- رئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة رئيساً للمجلس.
ثانيا- أعضاء بحكم مناصبهم

أ‌- رئيس الوزراء.
ب‌-رئيس اركان الجيش.
ت‌- معاونو رئيس اركان الجيش.         

ث‌- قادة الفرق.
ج‌- قائد القوة الجوية.
ح‌- الحاكم العسكري العام.
خ‌- ضباط الجيش المستوزرون الذين ساهموا مساهمة فعالة في حركة 18 تشرين الثاني 1963.
د‌-  الضباط الذين يرتأيهم المجلس الوطني لقيادة الثورة على ان لا يتجاوز مجموع أعضائه العشرين عضوا.

إن التغييرات الحاصلة بتركيبة المجلس الوطني بعد حركة تشرين 1963 كان لصالح تعزيز قبضة العسكريين غير المنتمين الى حزب سياسي ومن المساهمين في حركة 18 تشرين سنة 1963، والذين لديهم ولاء لرئيس الجمهورية، وجميعهم من القومية العربية وأغلبهم من انتماء مذهبي محدد.

وفي ثاني اجتماع لمجلس الوزراء الذي تشكل بعد تحرك الجيش، تم تشكيل لجنة لوضع الدستور تألفت من وزير العدل السيد كامل الخطيب ووزير الدولة مصلح النقشبندي وزير الشؤون البلدية والقروية السيد محمود شيت خطاب وزير الإصلاح الزراعي الدكتور عبد الصاحب علوان ووزير الدولة لشؤون الوحدة السيد شامل السامرائي وان يكون وزير العدل مقررا لها. وقدمت مشروع لكن رئيس الجمهورية لم يرض به لمحدودية صلاحياته، فتم تشكيل لجنة من رئيس الجمهورية وعدد من الوزراء وبعض الموظفين في رئاسة الجمهورية لوضع مشروع دستور جديد، تضمن صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية.، وقد استمدت اللجنة بوضع الدستور بدستور الجمهورية العربية المتحدة لسنة 1964.
أُقرّ مشروع الدستور من قبل مجلس الوزراء وصُدّق عليه من رئيس الجمهورية بتاريخ 29 نيسان 1964، ثم وُجه بيان الى الشعب العراقي  في3 أيار من العام نفسه، تم فيه الإعلان رسميا عن سريان الدستور[9] (https://docs.google.com/document#heading=h.ux0w6fcjl9yd).
وقد نصّ الدستور الجديد صراحة على تعزيز سلطات رئيس الجمهورية، سواء بصفته رئيسًا للدولة أو رئيسًا للمجلس الوطني لقيادة الثورة، بل إنه تولّى فعليًا مسؤولية الإشراف على جميع مؤسسات الحكم، ما جعل مبدأ الفصل بين السلطات مُفرغًا من مضمونه.
ومن الجدير بالذكر حدد الدستور المؤقت فترة انتقالية له مدتها ثلاث سنوات، وبنفس الوقت أكد انه يبقى نافذ حتى اتخاذ الدستور الدائم، وتم الغاء الدستور المؤقت الذي صدر في تموز 1958.

خامسًا: دستور عام 1968 السلطة المطلقة للحزب الحاكم
في 17 تموز 1968، شهد العراق انقلابًا عسكريًا جديدًا، قاده حزب البعث العربي الاشتراكي، بمشاركة ضباط بعثيين وعسكريين موالين لهم، ضد نظام الرئيس عبد الرحمن عارف. وقد أسفر هذا الانقلاب عن استلام البعثيين للسلطة، وإعادة ترتيب البنية السياسية والدستورية بما يخدم مشروعهم في احتكار السلطة وإعادة صياغة الدولة على أسس حزبية مركزية.
بُعيد الانقلاب، شُكّل مجلس قيادة الثورة كهيئة عليا حاكمة، وأصبح المصدر الوحيد للسلطة التشريعية والتنفيذية. تولى رئاسته اللواء أحمد حسن البكر، الذي أصبح في الوقت نفسه رئيسًا للجمهورية، فيما شغل عضوية المجلس عدد من القادة العسكريين والسياسيين وحسب المواقع التالية:
رئيس الجمهورية، رئيس الوزراء، وزير الدفاع، وزير الداخلية، رئيس اركان الجيش، قائد موقع بغداد، قائد الحرس الجمهوري.
ولم يمض اقل من أسبوعين تم طرد الضابطين غير البعثيين من عضوية مجلس قيادة الثورة وأصبح يضم  بعد 30 تموز 1968 أعضاء القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي إضافة الى البعثيين العسكريين الذين ساهموا في انقلاب 17 تموز 1968 واشترط ان لا يزيد مجموع أعضائه على خمسة عشر عضوا، وفق التعديل الثالث لدستور 1968 الذي صدر في 10 تشرين الثاني 1968[10] (https://docs.google.com/document#heading=h.tj11hp5zj4ed).

بعد استيلاء حزب البعث على السلطة في تموز 1968، كُلّف بعض القضاة وكبار موظفي رئاسة الجمهورية بإعداد مشروع دستور مؤقت للنظام الجديد. تمت صياغة الدستور بالاعتماد على دستور 25 آذار 1964 للجمهورية العربية المتحدة، وأُقرّ من قبل مجلس قيادة الثورة  وصدر بتاريخ 21 أيلول 1968، بعد نحو شهرين من الانقلاب. ​
ان كتابة الدستور المؤقت لسنة 1968 تمت من خلال قانونين بتكليف من مجلس قيادة الثورة بعد 30 تموز 1970 وان الذي ناقش المسودة واصدرتها هو مجلس قيادة الثورة الذي ضم أعضاء حزب البعث واغلبهم من خلفيات عسكرية، وتركيبته هي امتداد للنخبة العسكرية التي طغت على المسرح السياسي بعد انقلاب 8 شباط 1963 وتكريس أكثر بعد حركة الجيش في تشرين الثاني 1963.

 

سادسًا: دستور 1970 تثبيت شرعية حزب البعث ونموذج ” الدستور المغلق”
وبعد استقرار السلطة نسبياً، بادر مجلس قيادة الثورة في عام 1970 إلى تشكيل لجنة لصياغة دستور مؤقت جديد، بهدف تقنين هيمنته على الدولة وتثبيت أركان الحكم البعثي. ضمت اللجنة:
رئيس مكتب الشؤون القانونية في المجلس، أستاذين من كلية القانون والسياسة في جامعة بغداد، من ضمنهم الدكتور منذر الشاوي،
بعد اجتماعات مكثفة، أنهت اللجنة مسودة الدستور المؤقت، ورفعته إلى نائب رئيس مجلس قيادة الثورة في 9 حزيران 1970. ثم أعيد تشكيل اللجنة لاحقًا لتشمل رئيس ديوان رئاسة الجمهورية وأساتذة قانون إضافيين، وقد صدر الدستور المؤقت بقرار مجلس قيادة الثورة المرقم 792 في 16 تموز 1970[11] (https://docs.google.com/document#heading=h.xpqetkmbuuee).
ان الجهة التي كتبت الدستور هي من القانونين المرتبطين بدوائر الدولة، ولم تعرض المسودة على مجلس الوزراء، انما تمت المناقشة والاصدار من خلال مجلس قيادة الثورة الذي يضم القيادة القطرية لحزب البعث دون مشاركة من القوى السياسية الأخرى.
هذه المرحلة رسّخت نموذج “الدستور المغلق”، أي الدستور الذي لا يعمل بوصفه إطارًا لضمان الحقوق أو تنظيم السلطة، بل كأداة شكلية لإضفاء طابع قانوني على سلطة مطلقة وفردية.

لقد غاب تمامًا عن النظام السياسي مفهوم المشاركة السياسية، وانعدمت آليات التوازن والرقابة، مما مهّد الطريق لانهيار الدولة ومؤسساتها مع الاحتلال الأمريكي عام 2003، حيث تم حل مجلس قيادة الثورة، وإلغاء الدستور المؤقت، وفتح الباب لمرحلة دستورية جديدة كليًا.
لقد كشفت دراسة كتابة الدساتير في العراق عن نمط متكرر من إقصاء القوى الاجتماعية والسياسية، واعتماد دوائر ضيقة في الصياغة والمناقشة والإصدار. ومع هيمنة العسكريين والحزب الواحد، تحولت الدساتير إلى أدوات تثبيت للسلطة، لا عقود اجتماعية متوازنة. هذا التاريخ الدستوري غير التشاركي ساهم في هشاشة النظام السياسي، وألقى بظلاله على كل المراحل اللاحقة. ومن هنا، تبرز أهمية استحضار المشاركة والشفافية في أي مشروع دستوري مستقبلي.

[1] (https://mail.google.com/mail/u/0/#_ftnref1) – عبد الرزاق الحسني، تاريخ العراق السياسي الحديث، الجزء الأول، دار الرافدين، بغداد، 2008، ص2- 23.
[2] (https://mail.google.com/mail/u/0/#_ftnref2) – ناثان براون، دساتير من ورق ترجمة وتعليق د محمد نور فرحات، تقديم القاضية تهاني الجبالي، مكتبة سطور، القاهرة، 2010، ص 98.
[3] (https://mail.google.com/mail/u/0/#_ftnref3) – د رعد الجدة، التطورات الدستورية في العراق، بيت الحكمة، بغداد، 2004، ص 34.
[4] (https://mail.google.com/mail/u/0/#_ftnref4) – د عبد الله البستاني، القانون الدستوري، مطبعة الرابطة، بغداد، 1951، ص234.
[5] (https://mail.google.com/mail/u/0/#_ftnref5) – حسين جميل: الذي كان عضواً في مجلس النواب خلال السنوات 1947، 1948، 1954، كما شغل منصب وزارة   العدل في حكومة علي جودت الايوبي   للفترة 1949-1950.
[6] مارينا سبرونفا، التحولات الدستورية في العراق، ترجمة الدكتور فالح الحمراني، دار عدنان للطباعة والنشر والتوزيع، بغداد، 2012، ص 50
[7] (https://mail.google.com/mail/u/0/#_ftnref7) – تاريخ الوزارات العراقية في العهد الجمهوري 1958- 1968 الجزء السادس 8 شباط- 18 تشرين الثاني 1963، تنقيح. جعفر عباس حميدي، الطبعة الثانية، بغداد، 2005، ص16.
[8] (https://mail.google.com/mail/u/0/#_ftnref8) – تاريخ الوزارات العراقية في العهد الجمهوري 1958- 1968 ، المصدر السابق، ص 121.
[9] (https://mail.google.com/mail/u/0/#_ftnref9) – تاريخ الوزارات في العهد الجمهوري 1958-1968، الجزء السابع، تنقيح د جعفر عباس حميدي، بيت الحكمة، بغداد، 2004، ص130
[10] (https://mail.google.com/mail/u/0/#_ftnref10) – د. احسان حميد المفرجي، د. كطران زغير نعمة، د رعد ناجي الجدة، النظرية العامة في القانون الدستوري والنظام الدستوري في العراق، جامعة بغداد، مطابع دار الحكمة، بغداد، 1990، ص 398.
[11] (https://mail.google.com/mail/u/0/#_ftnref11) – د. احسان حميد المفرجي، د. كطران زغير نعمة، د رعد ناجي الجدة، المصدر السابق، ص 409.

*نائب رئيس مركز بغداد للتنمية القانونية والاقتصادية

قد يعجبك ايضا