النفط يمرّ من هنا.. كوردستان تكتب مستقبلها

جليل إبراهيم المندلاوي

في مشهد سياسي واقتصادي لافت، بدا رئيس حكومة إقليم كوردستان مسرور بارزاني وكأنه يلعب دورا مزدوجا: مبعوث استثماري يحمل بين يديه مفاتيح مستقبل الطاقة في الإقليم، وسفير سياسي يوقّع على رسالة مفادها أن كوردستان ما زالت حليفا استراتيجيا موثوقا وسط الشرق الأوسط المتقلب، حيث وقف في قلب العاصمة الأمريكية واشنطن، لا ليطلب دعماً عسكرياً كما كان يفعل الساسة في عراق ما بعد 2003، بل ليشهد توقيع اتفاقيتين في قطاع الطاقة بقيمة تقدّر بعشرات المليارات من الدولارات، نعم، مليارات وليست ملايين، وشركتا “HKN Energy” و”Western Zagros” لم تكونا ضيفتين جديدتين على مائدة النفط الكوردستاني، بل شركاء قدامى، فالاتفاقيتان ليستا جديدتين بل تمت إعادة تثبيت أقدامهما في لحظة توقيت سياسي بالغ الحساسية، فالعراق، منذ 2005، لم يستطع حتى اللحظة أن يلد قانوناً موحداً للنفط والغاز، ليبقى الجنين التشريعي مُعلّقاً في رحم خلافات بغداد – أربيل، ورغم ذلك، تُصر أربيل على أن ما لا تستطيع بغداد تقنينه، تستطيع كوردستان استثماره، وهنا يكمن الذكاء السياسي، فمن خلال هذا التوقيع العلني، تضع كوردستان طابع “الشرعية الدولية” على اتفاقياتها النفطية، وتقول بصوت عالٍ: نحن هنا، نتعاقد، ننتج، ونوقّع، والعالم يشهد.
الحدث الذي جرى داخل مقر غرفة التجارة الأمريكية، لا في دهاليز السياسة المعتمة، لم يكن مجرد توقيع بالأحبار الرسمية، بل أشبه بإشهار سياسي أنيق، يحمل بين سطوره رسائل سياسية دقيقة إلى كل من يهمه الأمر، عبر كلمات الترحيب التي كانت حافلة بالتفاؤل، وأُحيطت الاتفاقيات بهالة من المديح عن الاستقرار الكوردستاني والاستثمار طويل الأمد، فما حصل لم يكن فقط اتفاقاً نفطياً، بل مشهداً دبلوماسياً ناعماً يلمّح إلى تحولات في تموضع الإقليم في الخارطة الإقليمية والدولية، بارزاني لم يوقّع فقط على عقود طاقة، بل عزّز “عقد شراكة” سياسي طويل الأمد مع واشنطن، بينما في بغداد، لا يزال البرلمان يُمسك بورقة “مشروعية العقود”، رغم أن المحاكم العراقية نفسها، وفق ما أعلنته وزارة الثروات الطبيعية في الإقليم، قالت كلمتها قبل سنوات وأقرّت بصحة الاتفاقيات، الطريف أن العراق، كدولة، لم ينجز بعد قانوناً واضحاً للنفط والغاز، لكنه لا يمانع من إصدار فتاوى سيادية حول دستورية ما لم ينظّمه بعد.
الاتفاقيتان، كما أكد مسرور بارزاني، ليستا مجرد صفقة نفطية، بل إعلان صريح بأن الإقليم يمضي قدما نحو “أمن طاقي” مستقل، مدعوم ببنية تحتية وغطاء دبلوماسي ثقيل الوزن، فالكلمات التي نُطقت من واشنطن لم تكن دبلوماسية خالصة، بل جاءت مشحونة بدلالات استراتيجية، فحين تصف وزارة الخارجية الأمريكية هذا التوقيع بـ”تعزيز العلاقات التجارية وتوسيع إنتاج الغاز في العراق”، فإن الرسالة الأوضح قد تكون: من يملك الغاز، يملك مفاتيح التفاوض، ولم تكتفِ وزارة الخارجية الأمريكية بالترحيب، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك بالحديث عن منافع تعود على “الشعبين”، أي الشعب الأمريكي وشعب كوردستان، في تصريح فيه من الرمزية أكثر مما فيه من دبلوماسية، ليتحول إلى تحالف استراتيجي اقتصادي معلن.
والأكثر إثارة هو ما جاء من وزارة الثروات الطبيعية في كوردستان التي بدت وكأنها ترد على اتهامات استباقية من بغداد، مؤكدة أن العقود نافذة منذ سنوات، وأن التغيير الوحيد هو “اسم الشركة المشغلة”، مشيرة إلى شرعية دستورية لا يمكن تجاهلها، الرسالة هنا كانت واضحة: لا تنتظروا موافقة بغداد، فالإقليم يتحرك بقوانينه، ومصالحه، وتحالفاته.
ما يُعقّد المشهد أكثر هو أن العراق “كدولة اتحادية” لم ينجح حتى الآن في إقرار قانون موحد للنفط والغاز، ما يُضعف حجج الاعتراضات الرسمية من بغداد، كيف يمكن الحديث عن “لا شرعية” لاتفاقيات، والقانون الذي يُفترض أن يحتكم إليه الجميع لم يولد بعد، وبينما ما تزال بعض القوى في بغداد تصرّ على استخدام لغة الوصاية، جاء الرد بلغة أكثر حضارية: تفضلوا بتشريع قانون النفط أولاً، ثم حدّثونا عن “المشروعية”.
فحكومة الإقليم لم تتأخر في تسويق اتفاقياتها كجزء من صلاحياتها الدستورية، مستندة إلى المادة 112 من الدستور العراقي، التي فُسّرت وما تزال تُفسّر بطرق شتى، في المقابل، تلوّح بغداد دوماً بأن النفط والغاز “ثروات وطنية”، وأن لا اتفاق شرعي دون المرور من بوابة الدولة المركزية، وفي الواقع، التوقيع في واشنطن لم يكن فقط إبراما لعقود طاقة، بل عرض سياسي يُذكّر المركز بأن كوردستان ليست مجرد وحدة إدارية تحت عباءة بغداد، بل كيان يعرف كيف يدير مصالحه، بمعنى آخر: كوردستان لا تسعى فقط إلى تصدير الوقود، بل تسعى إلى تصدير نموذجها الخاص في التنمية والطاقة والشراكة، في وقت ما زالت فيه بغداد غارقة في جدل قانوني بلا قانون.

خطاب رئيس حكومة إقليم كوردستان لم يكن اقتصادياً صرفاً، الرجل تحدث عن الاستقرار، والأمن، والإصلاح، والكهرباء التي “نأمل أن نصدّرها لباقي العراق”، وهذا ليس مجرد طموح تقني، بل تلويحة رمزية للجهة الجنوبية تقول: حين تغرقون في الظلام التشريعي، نضيء نحن الطريق، ولو بيد واحدة، فأهمية هذه الاتفاقيات لا تكمن فقط في استثمار النفط، بل في إنتاج الغاز الطبيعي الذي سيُغذّي محطات الكهرباء في كوردستان، وربما لاحقاً في وسط وجنوب العراق، ومع التحول العالمي نحو الطاقة النظيفة والغاز كبديل استراتيجي، يصبح من يملك مفاتيح الغاز لاعباً سياسياً لا يُستهان به، وكوردستان، كما يبدو، تسعى لتكون تلك اليد التي تُشعل المصابيح وتطفئ الأزمات.
صحيح أن الغاز الطبيعي سيكون وقود محطات الكهرباء في الإقليم وربما العراق، لكن الوقود الحقيقي هنا هو الرؤية، رؤية حكومة تعرف كيف تستخدم السياسة الدولية لصالح شعبها، وتدرك أن بناء علاقات مع واشنطن عبر الاقتصاد، أكثر نفعاً من التلويح بالخطابات القومية في مجالس السياسة الداخلية، فزيارة مسرور بارزاني شملت ملفات أكثر سخونة من الغاز والكهرباء، من الأمن والدبلوماسية إلى الاستثمار والسلام، كل تلك العناوين كانت على طاولة المباحثات مع المسؤولين الأمريكيين، وأي متابع يعلم أن توقيع اتفاق نفطي بهذا الحجم لا يتم دون ضوء أخضر سياسي ثقيل.
في المقابل، تقف بغداد أمام مشهد معقّد، فالاتفاقية قد تُحرج الحكومة الاتحادية وتفتح ملفا جديدا في العلاقة المتوترة أصلا مع إقليم كوردستان، فكلما خطا الإقليم نحو الاستقلال المالي والاستثماري، زادت وتيرة الجدل في البرلمان العراقي حول “المشروعية” و”الحصة النفطية”، وكأن الجميع يُجمع على قطف ثمار لم تُزرع بعد، لكن الأهم أن أمريكا، من خلال هذه الاتفاقيات، باتت حاضرة بقوة في المشهد الطاقي العراقي، ولكن من بوابة كوردستان، وهو ما قد يدفع دولا أخرى، وربما لاعبين إقليميين، إلى إعادة حساباتهم في خارطة النفوذ.
الرسالة الأهم من كل ما جرى قد تكون ببساطة: كوردستان تريد أن تحجز مقعدها في المستقبل الاقتصادي للعراق، وربما أبعد من ذلك، بمساعدة شركات كبرى وحلفاء كبار، لكن الواقع يُشير إلى أن طريق الطاقة محفوف بالأسلاك السياسية، وأن كل برميل نفط أو متر مكعب من الغاز في هذا الجزء من العالم لا يُمكن عزله عن معادلات النفوذ، والسيادة، والتحالفات الدولية.
وهكذا، وفي قلب واشنطن، لم يوقّع مسرور بارزاني على اتفاقيتين للطاقة فقط.. بل على مرحلة جديدة من السياسة الكوردستانية، فيها النفط وسيلة لا غاية، والغاز كلمة سرّ لعلاقة طويلة الأمد مع القوة الأولى في العالم، وفي النهاية، كل أنبوب نفط هو خط تواصل، وكل اتفاقية طاقة هي رسالة جيوسياسية مشفّرة، وما جرى في واشنطن لم يكن توقيعاً على ورق، بل خارطة نفوذ، تُرسم بالغاز، وتُقرأ بالكهرباء.. إنه غاز كوردستان، ولكن بثمن أمريكي، وبمذاق عراقي مُرّ قد يتطلب وقتا طويلاً لابتلاعه.

قد يعجبك ايضا