الزهراء محمد سعيد
القصة الفائزة بالقائمة القصيرة في مسابقة ديوان العرب رقم ١١ دورة الصمود، والمقاومة، ٢٠٢٥
“ضرب- سقط- نهض- وطني
هل أفلحتُ هذه المرة يا أمي؟”
ابتسمتُ وأنا أداعب خده:
“نعم، يا بطلي أفلحت هذه المرة.”
تأفف في ضجر:
“أريد طعاما، أنا جائع.”
احتضنتُه وأنا أستمع إلى صوت قرقرة معدته، والتي تعلوها أصوات معدتي. لم أجب إذ لا أملك إجابة، لستُ من يقرر متى أو كيف أحصل على الطعام.
سرتُ بحذر أفتش في بقايا قدوري القديمة لعلّي أجد كِسرة خبز أو ثمرة فاكهة سقطت هنا أو هناك. رائحة الغبار تخترق أنفي.. تثير صدري.. أكتم سعالي عن تلك الأذان والعيون المتلصصة علينا يبغون قتل الحياة فينا وانقطاع أنفاسنا، تقهرهم قدرتُنا على البقاء.
هاهي كسرة خبز، يا حسرتي! لقد تناثر عليها بقع العفن، آه يا صغيري.. ماذا أفعل؟!
حسناً، لا بأس أنظفها من العفن وأقدمها له، طفقتُ أمسحها بطرف ثوبي، قدمتُها له مرغمةً لعلها تخرس وحش الجوع القابع في بطنه. جلس القرفصاء وبدأ في قضمها. أسنانه صغيرة لا تقوى على تهشيم تلك الكسرة القاسية، لكنه لم ييأس وطحنها وابتلعها بتقزز. أتذكر كيف كان يتقافز فرحاً كلما أعددتُ له سلطة الفاكهة المحببة إليه! الآن أتحايل وأستجدي لقمة من الفئران.
انتفض صغيري وألقى بالخبز واختبأ في حضني عندما ارتفعت الأصوات الصاخبة بالخارج. أصختُ إلى لكنتِهم التي أكرهها لكنني مرغمة على سماعها، هاهم يتساءلون عن كوننا أحياءً أم أمواتا؟
يستمتعون بتعذيبنا.. صغيري يرتجف كفرخ يمام صغير يخشي أنياب الحيايا المتربصة به، احتضنته بقوة، لا ملاذ لنا الآن يا صغيري، قصفوا المنزل وتناثر حطام جزئه الغربي في كل مكان، حيث يرقد باقي أطفالي (وليد) و(جهاد). كتمتُ صرختي وأخمدت نيران آهاتي.. عليّ الصمود الآن.. همس صغيري:
“هل سيقتلونا الآن؟”
قبّلتُه بحنان: “لا تخف”
وبدأت أروي له قصته المفضلة حتى غفا، لكنه بين الفينة والأخرى ينتفض. حقيقةً لا أعرف إن كنا سننجو أم لا؟ مرت ساعات لا أعلم عددها مذ قصفونا، لم أر النور من حينها إلا من شقوق ضيقة من جدار الغرفة القابعين داخلها. رفض زوجي ترْكَ منزلنا بعد أوامرهم بالرحيل، صرخ:
– ما بترك داري أبدًا، هذي أرضي وهذا زيتوني، ما بترك لو شو ما صار.
ترى أين هو الآن؟! حي أم استشهد؟!
نظرتُ إلى الحطام.. أفكر في طفليّ.. يحدوني بعض أمل في بقائهما أحياء، “ضريبة الوطن” هكذا كانت تردد جدتي وتحمل في قبضتها حفنة من التراب: “هذا ليس ترابا فحسب بل دماء بذلت من أجله.”
همستُ:
“ومازالت تُبذل يا جدة.”
ازداد صخب الخارج، شعرتُ بقرب النهاية، زحفت محتميةً بالطاولة الخشبية في منتصف الغرفة، أخفيتُ صغيري في جسدي، ليتني أستطيع إعادته إلى رحمي.. يا ليت!
ضرباتٌ مدوّية متلاحقة.. الدار تهتز بعنف، ظلت صامدة حتى جاءت قذيفة، بعدها انطبقت الجدران. ضاقت أنفاسي.. صرخة صغيري اخترقت أذني تبعها صفير حاد وغيامات الغبار حجبت رؤيتي الضعيفة، ثم أعقبها سواد تام ..
لا أعلم كم مر على وضعنا هذا لكنّ الضوء بدأ يتسلل إلى عيوني، رئتي تناضل من أجل الحياة.. تأوهتُ عندما حاولتُ النهوض، سائل ساخن يندفع بغزارة من قدمي المصابة. تمتمتُ:
“صغيري كان في حضني، أين هو؟”
درتُ بعيني.. هاهو مسجًّى على وجهه بلا حركة. تحاملتُ على نفسي، زحفتُ حتى وصلتُ إليه. قلبي يرتجف وأنا أدعو الله أن ينجو. جذبتُه وقد أصيبت جبهته. تحسستُ صدره وقربتُ أذني من أنفه. تمتمتُ في راحة:
“الحمد لله مازال حياً.”
تضرعتُ إلى الله أن يصلوا إلينا في الوقت المناسب.
مرت ساعات وبدأ الوهن يتمكن مني. احتضنتُ صغيري ورقدتُ على الأرض، أرى وجه (وليد) و(جهاد) يبتسمان ويرددان:
طائرَ الشمس يا طائرَنا المحبوب
تنسج العشَّ وطعامك الدود.
أغمضتُ عينيّ مستسلمةً. حينها جُذبت خصلاتُ شعري ونُبشتْ الأرض جواري. فتحتُ عيني بصعوبة لأجد طائر الشمس يدور حولنا بريشه اللامع، هل هذا هذيان؟!
بدأ الضوء يغمر المكان.. أصواتٌ متداخلة:
هاهم وجدتهم، هل هم أحياء؟!
حُملتُ وأنا متشبثةٌ بصغيري..حملونا معا، أغمضت عيني عندما لمحت ضوء الشمس، صرخ أحدهم و قد ميزت صوته, أنه زوجي:
“حبيبتي..الحمد لله!”
ردَّدتُ:
“أطفالي، أين الصغير؟”
أجاب:
“الصغير بخير، ونبحث عن أخيه وأخته.”
حُملت تُشيّعني ضحكاتُ الصغيريْن، ويطوف حولهم طائر الشمس. لا بأس، سأحمل وجهيهما معي في مكاني الجديد وسنردد:
“طائر الشمس طائرنا المحبوب
تنسج العش و طعامك الدود …