عبودية بنكهة التقانة

سربند حبيب

هل فكرت يوماً بأن تتخلّى عن عادات إلكترونية أدمنتها لا إرادياً، كحمل هاتفك الذكي فور استيقاظك، تصفّحك سوشيال ميديا لا شعورياً وأنت جالس مع الأهل والأصدقاء، جلوسك أمام شاشة الكمبيوتر لساعات طويلة، إدمانك ألعاباً إلكترونية ومدى تأثيره على الدماغ؟
فعندما تلتقط الهاتف لا شعورياً، وبشكل لحظي تكون مستعبداً لعبودية ناعمة، مقيّداً بأصفاد افتراضية قائمة على الإقناع والخديعة، فكمّية الصور والفيديوهات المتدفّقة بغزارة وبفيض غير منتهٍ تؤثّر في حياتك العاطفية والشخصية والمهنية، وحتى الاجتماعية. فكم من صورة أسعدتك وجعلتك تضحك! وكم من فيديو أحزنك وجعلك تبكي، تتوتّر، وتقلق لما تشاهده! وكم من لعبة عزلتك عن المجتمع وجعلتك عنيفاً! من هنا نلاحظ الأثر القوي للصورة على الدماغ وسطوتها على السلوك، والتي تزيد من معدّلات القلق والاكتئاب لدى الفرد، ومدى انعكاسه على اللاوعي الجمعي.

فجميع الدراسات السيكولوجية تؤكّد بأن التطوّر الاجتماعي لدى الأفراد وخاصّة الأطفال والمراهقين منهم يتأثّر سلباً بالاستخدام المفرط للأجهزة الذكية بدلاً من التفاعل المباشر مع المحيط، فإدمان الهواتف الذكية والسوشيال ميديا والألعاب الافتراضية وخاصة لدى المراهقين يجعلهم يواجهون صعوبة كبيرة في التركيز، وهي من المهارات الأساسية للنجاح في الحياة العملية، وصعوبة الحفاظ على العلاقات الشخصية، والشعور بالقلق والتعاسة والاكتئاب. أليس كلّ هذا نوعاً من العبودية؟!
لقد تحوّرت العبودية القديمة، التي كانت محتكرة على السود، وتطوّرت حالتها الآن، وأصبحت تشمل الجميع، بدون تمييز بين اللون والعرق، وحتى العمر. هذا التطوّر المخيف للتكنولوجيا جعل من المجتمع يعيش حالة عزلة افتراضية، مستعملاً المجرّدات ولغة الأرقام واللوغاريتمات البرمجية ووسائل التواصل الاجتماعي ومنصّاتها المتعدّدة، التي تستهدف معياراً واحداً وهو الإنتاج، وبالتالي تحقيق الربح عن نسب المشاهدة واللايكات وإحصاء المتابعات، ولو على حساب «إنسانية الإنسان»، وانتهاك خصوصيته وحرّيته وآلامه وحقيقته، لكنها في نفس الوقت مفرحة ومبهجة برفاهية يُخيّل لنا ونحن نستهلكها بسعادة، رغم إدراكنا لما فيها من أغلال وقيود أدمناها واستعذبنا الانغماس بها، وهنا يُنهي الكاتب الروماني كونستانتين جيورجيو، تصوّره المستقبلي للإنسان في المجتمع التقني الخالي من الفكر، والمجرّد من الإحساس، الذي يعيش حياته كالآلة. يقول: «لن يبقى فرد واحد على سطح الكرة الأرضية حرّاً، بل نكون جميعاً اليوم عبيداً تقنيين». نعم لقد أصبحنا في عصر التكنولوجيا والاتّصالات مجرّد عبيد لما نراه، وهي من أبرز أشكال العبودية في نسختها الحديثة.

هذا الصنف من العبودية، طرح إشكالات نفسية وقانونية كبرى، في التعامل مع الهوية الجمعية، فلم يعد الأمر يحتاج كما كان إلى إكراهات بدنية مضنية، ورحلات عبر مئات الأميال على مسارات طرق قوافل الرقيق إلى أسواقها المعروفة، بل اختصر على وسائل التكنولوجية المنتشرة والبسيطة من حيث الاستعمال، التي جعلت من المجتمع في الواقع، وبكل سهولة، سلعة للبيع في أسواق النخاسة الافتراضية.

لقد سلبت منّا التقنية الإنسان الحرّ، وإنسان الحرّية؛ إذ صرنا في سيطرة واستعباد، نعبّر عنهما سبيلاً بالصراع من أجل عبوديتنا، والكفاح من أجل خلاصنا وهلاكنا، جميع هذه العوامل اجتمعت لتجعل منّا أسرى افتراضيين.
أنا هنا ومن خلال هذا الطرح لست بصدد إنكار وتهميش ما توصّلت إليها الثورة الرقمية، التي أحدثت تحوّلاً جذرياً في طريقة تفاعلنا مع العالم، ومع بعضنا بعضاً، بل أصبحت الحياة أسهل وأكثر انفتاحاً من ذي قبل، حيث جعلت من العالم قرية صغيرة اختصرت المسافات، وسهّلت الوصول للمعلومات والأخبار بلحظتها، من خلال محرّكات البحث على الأنترنت، وخاصة المحرّك الشهير “Google”، الذي يأتيك بالخبر اليقين.

ولا ننسى دور السوشيال ميديا، وخاصة الفيسبوك، محرّك الثورات ضدّ الديكتاتوريات، وما فعله في ثورات الربيع العربي، الذي كان له الدور الأبرز في إسقاط أنظمة استبدادية وشوفنية. فمن خلال هذا الفضاء الأزرق نطلّ من شرفتنا على العالم، نسير في ردهاتها الرقمية عراة، وننشر ما يجول في خاطرنا، نصبح علماء وفلاسفة وهميين على الملأ، ولا نشعر بوطأتها في كلّ تفاصيل حياتنا اليومية، ولا ندرك تلك الأغلال المحكمة بأصفادها، عندما نصبح مرئيين بشكل فاضح، فعندما يتساوى العارف بالجاهل، والحقيقي بالزائف، والحرّ بالعبد، نستخفّ بقيمة المعرفة والفكر، ونصبح جزءاً من هذه المنظومة الافتراضية، هذه التكنولوجيا الرقمية المدهشة، جعلتنا أسرى ومأسورين بمحض إرادتنا، في حين نشعر بأننا نعكس ما بداخلنا من هواجس ورغبات وأفكار، ولكن في الحقيقة نحن مستعبدو التقنية.

فكم هو جميل أن نشعر بوجودنا الحيّ، أن نستمتع بجمال الأشياء الطبيعية بعيداً عن صخب وضوضاء هذا العالم الافتراضي، النظر في لاوعينا، الذي تتجلّى فيه الحقيقة، وأن نعود إلى ذواتنا الحقيقية، نتلمّس أرواحنا ونصفّي أذهاننا من هذه الشوائب الإلكترونية.
حقّاً بتنا بحاجة إلى ثورة مضادّة، ثورة تحرّرنا من الأغلال التكنولوجيا، تكون هناك حدود تصون إنسانية الانسان، والعيش على طبيعتنا البشرية بدون تدخّل الآلة. فهناك تقنيات كثيرة تساعدنا على التحرّر من وطأة التكنولوجيا، كفكرة التفريغ الذهني، وهي تقنية تساعدنا على تصفية الذهن، وتعزيز الطاقة الذهنية من خلال نقل الأفكار، الهموم، والمهام إلى ورقة بيضاء أو كتابة اليوميات، بطريقة تفريغ ما تشعر به بتدفّق حرّ، دون أن تكون نقدياً أو تحليلياً. الاستمتاع بممارسة هواية خاصّة، كالرسم، الموسيقا، الرياضة، المطالعة… جميعها تساعدنا على الاسترخاء وتخفيف التوتّر الجسدي والعقلي.
ولا ننسى ممارسة تقنية »براناياما» يوغا، وهو تمرين للصحّة النفسية والبدنية، الذي يساعد على تنظيم التنفّس، من خلال آليتي الشهيق والزفير، وحبس النفس في تسلسل معيّن، فيساعد على التأمّل والتخلّص من ضغوط الحياة اليومية، وذلك بزيادة استنشاق الأوكسجين وامتصاصه المتزايد، ما ينشّط خلايا الدماغ، الذي بدوره يعزّز من الارتباط الحيوي بين العقل والجسد.

فعشْ يوماً بدون هاتف، وابتعد عن مواقع التواصل الاجتماعي، عُدْ إلى واقعك الحقيقي، اخرج من قوقعتك الافتراضية، اختلط بأقرانك في المحيط، اذهب للطبيعة، امشِ حافياً على الأرض، لامسِ الأشجار، تنفّس الهواء بحرّية، وأشعر بإنسانيتك، فهي الفرصة لتنقذ ذاتك الحقيقية من طوفان التقنية، وتصل لحقيقة، مفادها أن هذه التقنيات الحديثة تطوّرت لتخدم مصالحنا، لا لتتحكّم فينا، وتحدّد أقدارنا.

ومن هذا المنطلق قمت بدراسة استقصائية عبر الأنترنت، على مجموعة عشوائية لمستخدمي الهواتف الذكية في حياتهم اليومية، ذات فئات عمرية مختلفة ومتفاوتة في المستوى التعليمي والثقافي، فطرحت أسئلة موضوعية لواقع الحياة المعاشة:
1 – ما هو شعورك، وأنت تحمل هاتفك فور استيقاظك من النوم؟ وماذا تشاهد: رسائل، إيميلات، مواقع التواصل الاجتماعي، حالات تلك المواقع…؟!
2 – ما هو الأثر، الذي تتركه تلك المشاهدة في نفسك ومزاجك اليومي؟
3 – هل يؤثّر الهاتف الذكي في طبيعة علاقاتك الاجتماعية داخل الأسرة ومع المجتمع؟
4 – أيّ تطبيق تفضّله في السوشيال ميديا: الفيسبوك، تيك توك، انستغرام، إكس؟ وهل يعبّر عن ذاتك؟
5 – ما الأثر الذي يتركه هذا التطبيق في سلوكك؟
6 – عندما تنشر صورة، فيديو، ستوري، بوست… بماذا تشعر؟
7 – هل حقّاً تشعر بالقلق والتوتّر عند ينطفئ هاتفك، وأنت بعيد عن مصدر الطاقة؟
8 – أيّهما تفضّل كثيراً العلاقات الاجتماعية الافتراضية أم العلاقات المباشرة؟ وأين تجد نفسك؟
9 – هل تستطيع التخلّي عن هاتفك؟ وكم هي المدّة؟ وكيف ستقضى وقتك بعيداً عن وسائل التكنولوجيا؟
10 – كيف تنظر لهذا الغزو الافتراضي؟ وهل حقّاً نستخدمه بشكل فعّال لخدمة الإنسان؟

من خلال هذه الأسئلة، لامست مدى ارتباط الأفراد بالهواتف الذكية والتكنولوجيا، وعدم قدرتهم في التخلّي عنها، لكن ثمّة فرق في تفكير الأجيال، فمواليد الثمانينات والتسعينات لديهم نستولوجيا العودة إلى الحياة ما قبل الإنترنت، والعيش في أيّام الزمن الجميل، حيث البساطة والبراءة وراحة البال ولمّة العائلة والسعادة الحقيقية والشعور بوجوده الحقيقي كإنسان، وفي المقابل أجيال الألفية يعيشون حالة نوموفوبي (Nomphobie)، أيّ هاجس الخوف من فقدان الهاتف، حيث لا يستطيعون العيش بدون الهاتف، بعد أن أصبحت جزءاً من حياتهم اليومية، فكيانهم مرهونة بها، ولا يتخيّلون حياة خالية من الهواتف الذكية، وهذا ما يجعلهم منعزلين عن محيطهم الخارجي، ويفقدون بذلك أهم خاصّية في الإنسان، ألا وهي التركيز، وبالتالي يتعرّض حياتهم العملية للفشل، بالإضافة إلى مشاكل جسدية، فالضوء المنبعث من الشاشة تسبّب عدّة مشاكل لكلّ من الدماغ والعينين، وخاصّة عند استخدام الجهاز في الظلام، حيث يسبّب اضطراب النوم والشعور بالإرهاق، وأيضاً مشاكل في الرقبة وآلام العمود الفقري وتأثيره في اليدين والذراعين، بالإضافة إلى المشاكل النفسية من القلق والاكتئاب والعزلة.

ومن خلال هذه الأجوبة، لاحظت إجماعاً على الأثر الإيجابي للتكنولوجيا، حيث جعلت التواصل أسرع وأسهل عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتطبيقات الذكية، وكذلك السرعة في الحصول على المعلومة، وأصبحت الحياة أكثر تطوّراً من حيث الكفاءة والدقّة في العمل والإنتاجية.
نظرياً يتفق الجميع في الابتعاد عن هذا الغزو الكتروني، الذي يتغلغل في أحشاء الحياة بدون رادع، ينتهك الخصوصية، ويغيّر من عاداتنا اليومية، حيث نعيش في فضاء افتراضي لا نتفاعل مع الآخرين، ممّا يجعلنا نعيش في وحدة تامّة، فنصبح كالروبوت جسداً بلا روح، لكن عملياً الجميع مدمنون عليها، ولا يستعطون التخلّي والعيش بدونها. لذلك أرى من الضروري استخدام الواعي والمتوازن للتكنولوجيا؛ لتجنّب الإدمان الرقمي، حيث نستطيع أخذ عطلة رقمية من أجل التخلّص من السموم التكنولوجية، وذلك عبر قضاء بضعة أيّام بعيداً عن الروتين اليومي، وبعيداً عن التكنولوجيا والأجهزة الذكية، فنخرج من العالم الافتراضي الرقمي فنعود لذاتنا ونشعر بوجودنا.
كذلك نعزّز تفاعلنا الاجتماعي الحقيقي، من خلال أنشطة اجتماعية خارج العالم الرقمي، للحفاظ على العلاقات الإنسانية القوية.

فاهرب من صخب المدن، وتحرّر من أغلال التكنولوجيا، وتواصل مع ذاتك، وقمْ برحلة استرخاء في الطبيعة، حيث تشير الأبحاث في المجّلة الدولية للبحوث البيئية والصحّة العامّة إلى أن قضاء الوقت في البيئات الطبيعية يقلّل من التوتّر والقلق والاكتئاب عن طريق تهدئة العقل وتعزيز الاسترخاء. محقّقاً التوازن والتناغم بين الجسد والعقل والروح، من خلال رياضة اليوغا والوضعيات الجسدية وتقنيات التنفّس والتأمّل، لتحفيز الحواس وتجديد الحيوية، الذي بدوره يساعدنا في تحسين التركيز والشعور الأعمق بالهدوء، وتقليل مستويات التوتّر.

تعرّض لأشعة الشمس، التي تعدّ أمراً بالغ الأهمية، للحفاظ على الصحّة العقلية، فهو يحفّز إنتاج السيروتونين، وناقل عصبي مرتبط بتنظيم المزاج والسعادة. فضوء الشمس يمكّن الجسم من تصنيع فيتامين D، الذي يلعب دوراً محورياً في الصحّة العقلية، لذلك البلدان التي لا تشرق فيها الشمس كثيراً يعيشن معظم سكانها حالة اكتئاب. لذلك يجب علينا أن نصل لحقيقة مفادها بأن التكنولوجيا ليست مجرّد أداة للترفيه أو لتمضية الوقت، بل هي أداة قوية يمكن أن تؤثّر بشكل إيجابي أو سلبي على حياتنا. فاستخدامها بشكل مفرط يؤدّي إلى التشتّت الذهني وفقدان التركيز. كما يؤدّي إلى الإدمان على وسائل التواصل الاجتماعي، أو الألعاب الإلكترونية، ممّا يؤثّر في علاقاتنا الشخصية وصحّتنا النفسية.

أيضاً يجب أن نكون حذرين في ما يتعلّق بالخصوصية والأمن السيبراني، حيث أصبحت البيانات الشخصية أكثر عرضة للسرقة أو الاستخدام غير القانوني. فمن المهمّ التأكّد من حماية معلوماتنا الشخصية على الإنترنت، من خلال استخدام كلمات مرور قوية، وتحديث البرمجيات بانتظام، وعدم مشاركة المعلومات الحسّاسة مع الآخرين.
لتجنّب عدم إدمان التكنولوجيا، يجب تخصيص وقت محدّد للاستخدام اليومي، والتأكّد من أننا نستخدم الأجهزة الإلكترونية، لتحقيق أهدافنا الشخصية والمهنية، بدلاً من الاستغراق في الأنشطة، التي تستهلك الوقت دون فائدة، كما يجب أن نحرص على التوازن بين حياتنا الرقمية وحياتنا الواقعية، وتخصيص وقتاً للعائلة والأصدقاء والأنشطة الخارجية كالزيارات والرحلات والنزهات…
لذلك يجب أن نستخدم التكنولوجيا بشكل واعٍ وحذر، حتى يصبح مصدراً للخير وأداة لتعزيز الوعي الاجتماعي للقضايا الإنسانية، وتحسين حياتنا الشخصية والمهنية، والمساهمة في بناء مجتمع أكثر تواصلاً ووعياً، والحرص على الاستخدام بما يخدم مصلحتنا ومصلحة الجميع، ولنبقى دائماً يقظين من التحدّيات، التي تواجهنا في سوء الاستخدام.

قد يعجبك ايضا