بين الإبراهيميّة والإخوانيّة: الكرد في مرمى المشاريع العابرة

إبراهيم اليوسف

منذ بداية العقد الثاني من هذا القرن، بدأت تتبلور في فضاء الشرق الأوسط معادلات جديدة تتجاوز مجرد التنافس الجيوسياسي التقليدي بين الدول، لتتمظهر في شكل مشاريع كبرى يسعى كلٌّ منها إلى إعادة إنتاج النظام الإقليمي برؤية متكاملة. لم تعد الصراعات محصورة في الجبهات العسكرية أو الاقتصادية فحسب، بل باتت تُخاض على مستوى إعادة تعريف الهويات، ورسم خرائط النفوذ عبر حروب الوكالة، وتدوير الفصائل، وإحياء ما طُمر من ميراث ديني أو استعماري تحت مسميات حديثة. بين المشروعين المتصارعين- الإبراهيمي والإخواني- ينكشف الدور التركي بوصفه قوة مزدوجة الولاء: تسوّق نفسها شريكاً للغرب حيناً، ووريثة للخلافة حيناً آخر. بينما تظهر الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفاؤهما الخليجيون وقد صاغوا محورهم على أساس صفقة كبرى تنهي الصراع مع بعض العرب، وتؤسس لتوازن جديد في وجه إيران وأذرعها.

في هذا المشهد، يجد الحاكم الجديد في دمشق نفسه محاطاً بمغريات الولاء وخيارات الاحتواء، بينما يراهن على البقاء وحده كغاية. غير أن الأخطر في هذه الفوضى المتوازنة هو ما يُرتكب باسم تحرير الأرض أو حماية الدولة: من تدوير المرتزقة الأجانب، إلى تحويل مناطق بأكملها إلى منصات للموت السياسي والديمغرافي، حيث لا يبقى إلا الرماد. الكرد، في الحقيقة، لم يكونوا يوماً طرفاً عابراً في هذه المعادلة، بل هم في صميمها: تُحاك ضدهم الخطط من داخل كلا المشروعين، لأنهم يشكلون، بوعيهم السياسي وتحولاتهم الذاتية، نقيضاً صريحاً لمنطق الابتلاع أو الإقصاء، فهم المثال الصارخ على الكرد بين الاستئصال والاستبقاء. إذ يظهر في الواقع، مشروعان يتنازعان الشرق الأوسط اليوم، يتفرّع منهما ما لا يُحصى من المسارات والحسابات: مشروعٌ أوّل «إبراهيمي» ترعاه الولايات المتحدة وإسرائيل ويشايعه حلفٌ خليجيٌّ صلب، وآخر يرفعه «الإخوان» بظهرٍ تركيٍّ هش مراوغ يلاحق لحظة الهيمنة منذ زمن السلطنة. في قلب هذين القطبين يجد الحكمُ الجديد في دمشق فرصةً للتنفّس، إذ يحاول كلُّ طرفٍ استقطابه، بينما هو مشغولٌ قبل كلّ شيءٍ بتكريس البقاء؛ أو عبادة الذات.

المسار الإبراهيمي يبتغي إعادة صياغة الجغرافيا السياسية على أسسِ تحالفٍ ديني- اقتصاديّ يعيد رسم خرائط الأنابيب والأسواق والممرّات البحرية. أما المحور الإخواني- التركي فيستدعي ذاكرة الخلافة ووهج الجماعة، مُراهناً على القفز من بوابة المعارضة السورية نحو عمق المشرق. ومن هنا اكتشف الحكّام الجدد في دمشق أنّ بمقدورهم المناورة بين ضفّتين تنتظران إيماءةً واحدةً لتُشهر كلٌّ منهما بطاقة اعتماد النظام: هذه قاعدةٌ يُبنى عليها، وتلك بنيةٌ يجب أن تُستبقى. مع ذلك، يبقى ولاء السلطة لعرشها وحده. تُقايض ما عداها من المبادئ والأوراق، ولو أدّى الأمر إلى إطلاق سراح أكثر المرتزقة تطرّفاً لإشعال جبهة تحرير الشام أو تجييش كتائب المهمات الانتحارية في الساحل وحمص وصحنايا والسويداء. لا حرج لديها في دفع الفصائل المتمرّدة إلى حتفها إذا خُيِّل لها أن مستقبلها مرهونٌ بقرابينٍ جديدةٍ على مذبح الحدود، بمعنى أن العقل البراغماتي، هنا، يغامر بسواه لأجل ديمومته.

الكرد بين الاستبقاء و الاستقصاء والاستئصال:
هنا يتقدّم الكردُ إلى الواجهة. يتوهّم بعضهم أنّ الهوس التركيّ تجاه «روج آفا» ترفٌ أيديولوجيّ، غير أنّ الحقيقة أعمق: أنقرة تُدرك أنّ ولادة نموذجٍ كرديٍّ” ديمقراطيٍّ “على حدودها تهديدٌ استراتيجيٌّ ينسف مشروعها الإخوانيّ ويحرج تحالفها الإبراهيميّ الناشئ. مخاوف تركيا تفاقمت بعد نجاح “كرد روج آفا” أكثر من خشيتها التقليدية من” كرد باكور”؛ لذا تتحرك تركيا لوأد مشروع روج آفا باعتباره الخطر الوجودي الأول، فدفعت تركيا السورَكَية وبقايا البعث السابق- بجناحيه- والفصائل المأجورة ضد كرد روج آفا، ولفّقت عليهم سرديات كاذبة، رغم ممارسات ب ك ك في روج آفا، غير المسوغة.

لقد تكيفت في أواخر التسعينيات وبداية الألفية الدولة التركية مع وجود قيادة قنديل وراء الحدود، ثم شاركت في دفع بعض كوادر حزب العمال نحو الشمال السوري، مع بداية الثورة السورية 2011، باعتباره محرقةً محتملةً تكفي لإطفاء الحراك. غير أنّ انبثاق تجربة «روج آفا» حوّل المحرقة المزعومة إلى فسحة تحرّرٍ أثارت هلع أنقرة وأجبرتها على إعادة الحسابات. لقد بينت السنوات الأخيرة، لاسيما منذ 2018 أن تخوفها من مشروع روج آفا جد كبير، وهوما لفت لأول مرة إلى هلعها، ومحاولتها احتواء” ب ك ك” أي إن مشروع روج آفا هومن أثبت حضور ب ك ك في داخل تركيا، وخارجها، في آن واحد.

لكن قنديل، رغم مقاومتها ورغم الخسارات الكبيرة التي مُنيت بها من قبل الجيش التركي، وبالعكس، ظلّت بالنسبة لأنقرة- رغم قناعة وبطولة مقاتلاتها ومقاتليها- قناعاً افتراضياً لتشويه صورة الكردي في الداخل والخارج، وأداةً تسويقيةً فعالة لصناعة صورة الكردي «الإرهابي». رغم أن حكومات أنقرة هي أمُّ الإرهاب بحق الكرد والمسيحيين وسواهم تاريخيّاً، وإن كانت قد اعتادت أن تفرض سردية واحدة تُعمّم عبر الإعلام والمدارس، ضد الكرد.

هذه الصورة النمطية كانت مسوغاً لتهجير الملايين من كردستان الشمالية صوب المدن الكبرى، وهي سياسة تركية ثابتة لا تقتصر على الحرب، بل تمتد إلى تغيير الديمغرافيا وإذابة الهوية. وكلّما أطفأت تركيا ناراً في الأطراف، اشتعلت مخاوف جذوة أخرى في قلب إسطنبول أو أنقرة بفعل الفجوة الاجتماعية التي خلّفها ذلك التهجير القسري، ما يكشف خطراً بنيوياً يهدد الدولة التركية ذاتها. ولولا قنديل، بوصفها ذريعةً جاهزةً، لما تمكّنت تركيا من احتلال عفرين وسري كانيي «رأس العين» وكري سبي «تل أبيض»، ولا استطاعت تسويق عملياتها العسكرية والديمغرافية على أنها «حرب على الإرهاب»، ولا وفّرت الغطاء الأيديولوجي لدعم الإخوان المسلمين في سوريا. لقد تحرك الجيش التركي نحو تلك المدن بغطاءٍ دوليٍّ وإقليميّ صُنع في معامل الخوف من «غول الجبال»، وتحولت الذريعة إلى مفتاحٍ لنهب الزيتون وقطع الشجر وطرد السكان الأصليين وإسكان غرباء على حسابهم.

ومع استمرار المشاريع العنصرية من حظر اللغة وتشويه الهوية إلى الاعتقالات الجماعية، ظلت أنقرة تعد شبح قنديل ذريعةً متجددةً توقد بها الرأي العام كلما همد. لكنها تتناسى أنّ الكرد باتوا جسداً من المجتمعات الحيّة المتداخلة، يأخذون أشكالاً تنظيمية وثقافية متعددة تتجاوز أي رأسٍ في الجبل. كلّ خطةٍ تركية تُعجّل بولادة مقاومةٍ أوسع تنتقل من الريف إلى المدن، ومن الحدود إلى قلب المركز. تركيا تحاول اليوم وأد المشروع الكرديّ أو ابتلاعه، فالمشروع الكردي قادم، فيما تلعب أنقرة لعبتها- في الوقت الضائع- لوأده كأهم من أمن تركيا ذاته. مناورةً بين الانضواء الرمزيّ في السياق الإبراهيميّ وبين استثمار رصيدها الإخوانيّ، مستعيدةً سردية الدولة الأموية لاستنهاض المزاج السُنّيّ العابر للحدود؛ فالسورَكَية وبعض من يدّعون الأموية يرون أنّ التنازل لإسرائيل عن سوريا كلها أسهل لديهم من نيل الكرد حقهم تحت سقف الوطن، ولذلك بعماء واضح يعادون الفيدرالية التي تُعَدُّ أعظم حلّ، في الحالة التي آلت إليها سوريا. لكنها تصطدم بحقيقةٍ صلبة: الكردُ شعبٌ عصيٌّ على المحو، وقضيته لا تُسقِطها المؤامرات؛ فكلُّ خطةٍ تنتهي إلى استبدال جغرافيا الأجساد تُثمر جغرافيا جديدةً للعزيمة.

ولئن رُسِمت خطوط النار على ضفاف الفرات وفي سهول الجزيرة، فإنّ المعركة الفعلية تدور في العقول،فإنه يبقى السؤال المدوى ترى: هل يُسمح لشعوب المنطقة أن تُعيد تعريف نفسها، أم يُكتفى بتدوير اسم الخلافة أو تلميع مصطلحات التطبيع؟ إنّ كلَّ مشروعٍ لا يعترف بالحقّ الكرديّ ركيزةً مركزيةً لسلامٍ عادل سيظلّ يدور في فراغٍ استراتيجي. جدول عمل المرحلة المقبلة يفرض على الفاعلين رؤيةً أوسع من تقسيم غنائم اللحظة. فالمزاج الدولي الذي يصنع المحاور قد يقلب الموازين في ليلةٍ صيفيةٍ أخرى، لكنّ حقوق الشعوب لا تتبخّر، بل تتحوّل قوىً كامنةً تنفجر حين تتوافر شروطها. لهذا كلّه، تدرك دمشق وواشنطن وأنقرة وتل أبيب- وإن بدرجاتٍ متفاوتة- أن استمرار إنكار الكرد أو توظيفهم وقوداً للصفقات يعني ببساطةٍ تمديد زمن النزيف ونسف فرص الاستقرار. خاتمةً، لا خلاصَ للمنطقة إلا بتفكيك أوهام الهيمنة القديمة والجديدة، والانتقال من مقاربة الكرد كـمجرد« مسألة» وليس” كقضية” إلى التعامل معهم شريكاً أصيلاً في رسم مستقبلٍ لا مكان فيه لابتزاز الحدود ولا لوصاية السلاح المستأجَر.

قد يعجبك ايضا