آناهيتا حمو. باريس
في كل مجتمع شرق اوسطي، خرج من الصراع والحروب أو ما زال يخوضه، يبقى التعليم المرآة الأصدق لحالة الإنسان فيه. ولعل من أكثر ما يبعث على القلق في واقع كُردستان والشرق الأوسط، ، هو تحوّل بعض البيئات التعليمية إلى منصات تعبئة سياسية، تسحب الطفولة من جذورها، وتحشو عقول الطلاب الصغار بأفكار حزبية مغلقة، تمهيداً لزجّهم في مشاريع عسكرية أو دعائية تخدم فئة سياسية محددة. وفي كتابه “الأرواح المتمردة “، هناك مقولة لكاتب لبناني من شعراء المهجر: ” بمعول الكلمة هدم مؤسسات قائمة مثلا: تحول الدين إلى مؤسسة إستثمارية، والسياسة إلى عملية تنويم مغناطيسي والتقاليد إلى سلعة في سوق الأقوياء بها يتاجرون ليمسكوا بخناق الإنسان ويمنعوه من الحركة.”
التعليم بوصفه بوابة الحرية، لا وسيلة الهيمنة
حسب مقولة للفيلسوف التربوي البرازيلي باولو فرير
“التعليم إما أن يكون أداة لتحرير الإنسان أو وسيلة لتدجينه.”
وبالنظر إلى الوضع التربوي في بعض مناطق كُردستان، نرى كيفية استخدام بعض القوى الحزبية المدرسة كأداة “تدجين”، لا تحرير. يتم تلقين الأطفال سردية واحدة، وتُقصى السرديات الأخرى. تُكرّس صورة “العدو” و”الخيانة” داخل الصفوف، وتتحول قضايا الأمة إلى شعارات فوقية تُفرض بالقوة، بدل أن تُفهم من خلال النقاش والنقد.
خطف الطفولة باسم الوطن، هكذا يتم عملية الحرمان والتنويم المغناطيسي لحرية الطفولة،
جان جاك روسو، في كتابه “إميل أو عن التربية”، حذّر من التداخل القسري بين السياسة والطفولة، قائلاً: “دعوا الطفولة تنضج كما هي، لا تسابقوا الزمن لخلق رجالٍ صغار.
لكن بعض الأحزاب الكردية اليوم تسابق الزمن فعلًا: تجنيد قُصّر، حثّهم على ترك الدراسة، تزيين فكرة “الإستشهاد”، كل ذلك تحت ذريعة الواجب القومي. فبدل أن يُربّى الجيل الجديد على صناعة المستقبل، يُستخدم كدرع سياسي في صراعٍ لا يدرك أبعاده بالكامل.
فقدان الفكر النقدي
جون ديوي، رائد التربية التقدمية، اعتبر أن:
“الديمقراطية تبدأ في المدرسة.”
لأن المدرسة تدرّب الطفل على التساؤل، على التفكير، على إحترام الإختلاف. لكن حين تصبح المدرسة أداة لغرس أفكار جاهزة، لا مكان فيها للسؤال أو للنقاش، فإن الديمقراطية تُقتل قبل أن تُولد.
طلاب اليوم هم قادة الغد. إذا نشأوا في بيئة تعتبر “الاختلاف” خيانة، و”الحياد” ضعفاً، و”التفكير” ترفاً، فإنهم لن يقودوا مجتمعهم إلى النهوض، بل إلى المزيد من الإنقسام والإنغلاق.
واجبنا الأخلاقي والتربوي
المربّي لا يجب أن يكون جندياً في جيش حزبي. دوره أن يخلق الإنسان الحر، لا” الأتباع”. وكما قال إيفان إيليتش، الناقد التربوي الشهير:
“المدرسة يجب أن تكون المكان الذي يُحرر الإنسان من الحاجة إلى الخضوع.”
وواجبنا، كأهل ومربين ومثقفين، هو أن نحمي المدرسة من التحوّل إلى مصنع للأدلجة السياسية. لأننا إن خسرنا التعليم، خسرنا المستقبل.
لا بد أن نختم بأن القضية الكردية، بعمقها الإنساني والتاريخي، تستحق جيلًا من البنّائين لا البنادق. جيلًا يقرأ، يناقش، يفكر، لا يردد شعارات طنانة، أبواق. والندم الحقيقي ليس على ما فات فقط، بل على ما نُكرره من أخطاء بحق أطفالنا، وحقّ الحياة نفسها.