عزالدين ملا
حين تتزاحم العناوين وتضيع البوصلة في زحمة المصالح، يلجأ الوعي الكوردي إلى حكمته القديمة، إلى الصخر الذي لم يساوم الريح، بل واجهها بكرامة الصمت. في زمن الثورة والمقاومة، لم تكن لغة البارزاني الكبير مقتصرة على البندقية، بل كانت تمتدُّ لتشملَ الرسائل، والمبادرات، وأبواباً مفتوحة لكلّ مَن أراد أن يصغي لصوت العقل. لم يكن يُفرّق بين خصم أو صديق طالما أن الحوار قد يخدم قضية شعبه، ويدفع بها خطوة نحو الأفق. ذلك الإرث الذي خطّه البارزاني في أكثر اللحظات دموية لم يكن مجرد تكتيك عسكري أو مجاملة سياسية، بل كان وعياً استراتيجياً بأهمية وحدة الصف، وضرورة تغليب الهدف المشترك على الخلافات التفصيلية.
من هذا الإرث يجب أن تُستعاد البوصلة اليوم، ليس فقط لأن المرحلة تتطلبه، بل لأن التاريخ يفرضه، والفرصة تحتمه. فحين يتشظّى الصوت الكوردي في غرب كوردستان، ويتفرّق الموقف إلى بعثات ومشاريع صغيرة، يضيع المعنى الأكبر للنضال الكوردي، ويتحوّل الحق التاريخي إلى ملف قابل للتفاوض والتقزيم. آن الأوان لاستدعاء روح ذاك الحوار العابر للخصومة، وتلك الحكمة القادرة على تحويل التنوع إلى مصدر قوة، لا إلى مدخل انقسام.
هذا النهج لم يكن عابراً في الزمان أو محصوراً بجغرافيا جنوب كوردستان، بل ترك أثره في الوجدان الكوردي العام، وأصبح مثالاً يُحتذى به في العمل السياسي. فكيف بنا اليوم، ونحن نعيش لحظة فارقة في تاريخ كورد سوريا، لحظة لا تفرض فقط أسئلة الهوية والحقوق، بل أسئلة المصير والبقاء؟ كيف نقف مكتوفي الأيدي أمام التشرذم والانقسام، ونحن نعلم أن ما يجمعنا أكبر بكثير ممّا يفرقنا، وأن خصومتنا ليست مع بعضنا، بل مع منظومة قهر طويلة سلبتنا الأرض والتاريخ واللغة والمستقبل؟
هذه المفارقة التي تستحق التوقف عندها ليست تفصيلا عابرا في التاريخ الكوردي، بل هي حجر الزاوية في الوعي السياسي الذي يجب أن يحكم سلوك القوى الكوردية في سوريا الجديدة. فالخلاف في الوسائل لا ينبغي أن يكون سبباً في التشظّي والانقسام، طالما أن وحدة الهدف قائمة وواضحة، نيل الكورد لحقوقهم كشركاء في الوطن، وفق صيغة دستورية ضامنة، داخل دولة مدنية حديثة تحترم التعدُّدية والكرامة الإنسانية. لا يمكن أن نسمح لأنفسنا بتكرار مآسي التاريخ، حين تحوّل الاختلاف في الرأي إلى معارك داخلية أضعفتنا، بينما كان الآخر يتقدّم نحو الهيمنة وبسط النفوذ.
اليوم، في دمشق، لا ينتظر أحد وفداً من حزب، ولا ممثلاً لتيار دون غيره، بل يتطلعون إلى وفد كوردي وطني موحّد، يُجسّد إرادة الشعب الكوردي لا الحسابات الحزبية الضيقة. وهذه ليست مجرد رغبة سياسية من المركز، بل ضرورة تاريخية تمليها اللحظة المصيرية التي تعيشها سوريا. إن تعدد الوفود الكوردية، وتصارع المشاريع الجزئية، لم يُضعف الصوت الكوردي فحسب، بل أسهم في إرباك شركائنا السوريين من المكونات الأخرى، وزاد من فرص التدخلات الخارجية لتفكيك المشهد الكوردي السوري، وإضعاف موقعه التفاوضي. لقد بات الانقسام أداة في يد الخصوم، وسلاحاً خفياً يُستخدم ضدنا دون طلقة واحدة، وبأيدينا نحن لا بيد الآخرين.
لقد كانت المؤثرات الأجنبية، عبر التاريخ الحديث، لاعبا خفيا في تعميق التباعد بين القوى الكوردية، ليس فقط في سوريا، بل في عموم الأجزاء الأربعة من كوردستان. كثيراً ما استُخدمت السياسات الإقليمية والدولية لتغذية النزاعات الداخلية، وزرع الشكوك، وتشويه النوايا. لذلك فإن الالتفاف حول المصالح العليا لشعب كوردستان، والتمسك بالهدف الاستراتيجي الجامع، هو الجدار الذي لا يمكن اختراقه، وهو السلاح الأنجع ضد مشاريع التفكيك والتهميش والتذويب. وحدها الرؤية الكوردية الجماعية، التي تنبع من داخل الوجدان القومي المشترك، قادرة على ردع موجات العبث بمصير شعب قدّم الغالي والنفيس في سبيل نيل حريته وكرامته.
في زمن تحوّلت فيه الجغرافيا إلى شاشة، والعالم إلى قرية صغيرة، لم تعد العزلة خيارا ممكنا ولا القطيعة موقفا حكيما. الحوار مع القريب والبعيد، مع العدو والصديق، لم يعد ترفاً دبلوماسياً بل ضرورة سياسية، شرط أن يجري تحت مظلة واحدة، مصلحة شعبنا ووطننا. لم يعد يكفي أن تكون محقاً، بل يجب أن تكون مؤثرا، وفاعلا، وحاضرا حيث تُرسم السياسات وتُكتب الدساتير وتُصاغ المعادلات.
كلما اقترب الكورد من تشكيل تحالف جامع يضم كافة القوى التي ناضلت وقدمت التضحيات لأجل ذات الهدف، كلما اختُصرت المسافات، وتعززت فرص التأثير. إن الفاعلية السياسية لا تقاس بعدد البنادق ولا بحجم الشعارات، بل بمدى القدرة على بناء كتلة تاريخية قادرة على التفاوض والضغط والتحالف باسم الشعب، لا باسم الكتل والمكاتب والمصالح الجزئية. هذه الكتلة ليست وهماً ولا أمنية، بل إمكانية واقعية إذا ما تحررت الإرادات من النزعة الفئوية، وتغلبت الحكمة على العناد، وتم استحضار التاريخ لا كعبء، بل كدليل طريق.
الوضع السوري يمرُّ بمخاضٍ عسيرٍ، لا يزال الشارع غارقاً في جدلية الثورة ضد الدولة، بين قوى ما زالت تؤمن بالكفاح المسلح دون أفق سياسي واضح، وتيارات تحاول الانتقال من موقع المعارضة إلى موقع البناء. هذه المرحلة لا تُقاس بالأيام ولا تُفهم بردود الأفعال، بل تحتاج إلى قراءة استراتيجية متأنية تُراكم الإنجاز وتبني على الممكن. لم تعد الثورة شعاراً بل مسؤولية، ولم تعد الدولة قيد الإنشاء بل فضاء لصراع الإرادات، ومن لا يُدرك تحوّلات المرحلة سيفوته القطار، ويجد نفسه على هامش التاريخ.
إن دعم تيار الدولة المدنية الديمقراطية في سوريا ليس انحيازاً تكتيكياً، بل ضرورة وجودية للكورد، بشرط أن يكون هذا التيار جاداً في بناء دولة دستورية تحترم الحقوق وتصون التعدُّدية، لا دولة شكلية تعيد إنتاج الظلم القديم بلباس جديد.
الكورد لا يبحثون عن امتيازات فوقية، بل عن شراكة حقيقية، قائمة على الاعتراف والاحترام المتبادل، شراكة تؤمن بأن الكوردي ليس أقل من غيره، ولا أكثر من سواه، بل ابن هذا الوطن مثل سائر أبنائه.
لا يمكن لقوة سياسية واحدة، مهما بلغ حجمها، أن تحمل المشروع الوطني على أكتافها وحدها. بل يحتاج هذا المشروع إلى ائتلاف واسع من القوى الديمقراطية المؤمنة بسوريا المواطنة، سوريا العقد الاجتماعي لا الحكم المركزي المطلق. من هنا، يجب أن تنفتح القوى الكوردية على جميع المكوّنات السورية، عرباً وسرياناً وعلويين ودروزاً ومسيحيين وسنة وشيعة، عبر بناء جسور تواصل حقيقية لا حملات علاقات عامة موسمية. هذا الانفتاح يجب ألا يكون خطوة تكتيكية لكسب الأصوات أو الحلفاء، بل جزءاً من قناعة استراتيجية بأن الوطن لا يُبنى بجماعة واحدة، بل بتلاقي الإرادات الحرة على قاعدة المصالح المشتركة.
السؤال الأهم اليوم: هل لدى القوى الكوردية مشروعٌ وطنيٌّ سوريٌّ متكاملٌ، لا يتقاطع مع جوهر الحلم الكوردي، بل يُترجمه إلى صيغة دستورية عملية قابلة للتنفيذ؟ الجواب يجب أن يكون نعم، شرط أن يتحرر الخطاب الكوردي من المزايدات والشعارات الكبرى غير الواقعية، وأن ينزل إلى أرض الواقع بمطالب قابلة للتحقيق في المرحلة الراهنة، ويُطوّرها لاحقا ضمن إطار دستوري واضح، يُثبت الكورد كشركاء في الوطن والنظام السياسي، لا كضيف أو طيف عابر.
إن المشروع الكوردي السوري يجب أن يكون واقعياً، وطنياً، دستورياً، تراكمياً وشاملاً، يجمع بين التاريخ والحقوق، بين الجغرافيا والسياسة، بين حلم التحرر وممكنات الواقع. مشروع يُبنى على الأمل لا الوهم، على الحقائق لا الأمنيات، على الإرادة الجماعية لا التفرُّد. عندها فقط، سيُكتب لهذا المشروع النجاح، وسيفرض نفسه في دمشق، لا كطلب، بل كحقيقة سياسية لا يمكن تجاوزها، لا بمرور الزمن، ولا بتغير الحكومات، ولا بتبدّل التحالفات، لأن ما يستند إلى الحق لا يسقط، وما يُبنى على الإيمان العميق لا يُكسر.