د.دژوار سندي
يُعدّ النظام الاتحادي أحد الأشكال الدستورية التي تهدف إلى تحقيق التوازن في توزيع السلطات والموارد بين الحكومة الاتحادية والوحدات المكوّنة للدولة، بما يضمن استقراراً سياسياً واجتماعياً وعدالة في إدارة الثروات. وقد جاء الدستور العراقي لسنة 2005 ليرسم ملامح هذا النظام بعد عقود من الحكم المركزي الشمولي، منفتحاً على تجربة اتحادية تُعطي إقليم كردستان صلاحيات واسعة، ومن بينها الحق في الحصول على حصة عادلة من الإيرادات الوطنية. غير أن التطبيق العملي لهذا النموذج ما زال يواجه تحديات خطيرة، خاصة فيما يتعلق بعلاقة الحكومة الاتحادية بإقليم كردستان، والتي باتت واحدة من أبرز النقاط التي تُهدد جوهر التجربة الاتحادية العراقية.
نصّت المادة (121/ثالثاً) من الدستور بوضوح على ضرورة تخصيص “حصة عادلة من الإيرادات المحصلة اتحادياً” للأقاليم والمحافظات، على أن تؤخذ بنظر الاعتبار حاجاتها ومواردها وسكانها. هذا النص لا يترك مجالاً للتأويل في ما يتعلق بالحقوق المالية، بل يضع قاعدة قانونية ملزمة تسعى لتحقيق العدالة المالية بين مكونات الدولة. لكن الواقع السياسي الذي أعقب إقرار الدستور، وما تلاه من توترات دائمة بين بغداد وأربيل، أفرز سلوكاً مخالفاً لهذه المبادئ، حيث أصبحت الحصة المالية المخصصة لإقليم كردستان، وخاصة تلك المتعلقة برواتب الموظفين المدنيين والعسكريين، عرضة للتجميد أو التخفيض أو التأخير، في ممارسات مثّلت خرقاً مباشراً للدستور، وتحويلاً لحق دستوري إلى أداة ضغط سياسي.
هذه الحالة لا تنعكس فقط على العلاقة بين الإقليم والمركز، بل تتجاوزها إلى بنية الدولة الاتحادية ذاتها. إذ أن إخلال المركز بالتزاماته المالية يفرغ الفيدرالية من مضمونها، ويعيد إنتاج المركزية التي يفترض أن النظام الاتحادي جاء لتجاوزها.
لايختلف اثنان إن فيدرالية تُستخدم فيها الموارد العامة وسيلةً للابتزاز السياسي لا يمكن أن تُبنى عليها دولة مستقرة، ولا يُمكن أن تنشأ فيها شراكة حقيقية بين مكوّنات البلاد.
أكثر من ذلك، فإن هذا الإخلال بالحقوق يولد شعوراً لدى المواطنين في الإقليم بأنهم لا يُعاملون كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات. وهو ما يُكرّس التهميش ويُضعف الانتماء الوطني، ويُعزز الشعور بالتمييز.
إن حرمان عشرات الآلاف من الموظفين من رواتبهم الشهرية، وتأخير صرف مستحقاتهم من دون مبررات قانونية واضحة، يشكّل انتهاكاً لحقهم في العيش الكريم، الذي كفلته المادة (30/أولاً) من الدستور، ويُمثل خرقاً لمبادئ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص التي وردت في ديباجة الدستور ذاته.
وان تراكم هذه الانتهاكات جعل من المسألة المالية مدخلاً لتعميق أزمة الثقة بين الطرفين، فالإقليم بات ينظر إلى الحكومة الاتحادية كمصدر تهديد لمصالحه وحقوقه، لا كضامن لها. وهو تطور خطير يُنذر بتفكك تدريجي في جسد الدولة، حيث اصبح الإقليم أكثر ميلاً لإدارة شؤونه بمعزل عن الحكومة الاتحادية.
وفي ظل غياب تشريع ينظم توزيع الإيرادات الاتحادية، مثل القانون المنصوص عليه في المادة (106) من الدستور، تبقى العلاقة المالية بين بغداد وأربيل أسيرة للضغوط والتفاهمات المؤقتة، بدل أن تُبنى على أسس قانونية عادلة ودائمة. ويؤدي هذا الفراغ التشريعي إلى استمرار حالة الشك وعدم الاستقرار، وهو ما يُقوض مبدأ الشراكة الوطنية، ويجعل النظام الاتحادي أكثر هشاشة وضعفاً في مواجهة الأزمات السياسية والاقتصادية.
وفي المحصلة، فإن عدم الالتزام بالحقوق المالية لإقليم كردستان لا يُمكن اعتباره مجرد خلل إداري أو تقصير فني، بل هو تعبير عن أزمة بنيوية في فهم وتطبيق الفيدرالية العراقية. ومثل هذا السلوك يُهدد وحدة العراق الوطنية، ويُضعف شرعية مؤسساته، ويُعزز مناخ الانقسام. وإذا ما استمر هذا النهج، فإن مصير التجربة الاتحادية برمّتها سيكون على المحك، وسيدخل العراق في دائرة من النزاعات المفتوحة التي تُقوض مشروع الدولة الحديثة.
الحل الجذري لا يكمن في حلول ترقيعية أو تفاهمات مؤقتة تُعقد تحت ضغط اللحظة، بل في العودة إلى روح الدستور، وتفعيل نصوصه بشكل حيادي وعادل، عبر إقرار قانون لتوزيع الإيرادات يُراعي التوازن ويُلزم الحكومة الاتحادية بتطبيق مبدأ العدالة المالية. كما يجب تعزيز دور المحكمة الاتحادية في حماية الحقوق الدستورية للأقليم، ومنع تحول الحقوق إلى أدوات صراع سياسي. فالاتحاد لا يقوم بالقوة، بل يقوم بالعدالة، وبضمان الحقوق، وبترسيخ مبدأ الشراكة في الحكم والثروة.