حزب العمال الكوردستاني… من ساحات النضال إلى خيار السلام: نهاية رحلة الصراع

د. ابراهيم احمد سمو

مدخل: معضلة التأسيس والمآل

حين نتحدث عن حزب العمال الكوردستاني (PKK)، نجد أنفسنا أمام تجربة سياسية وعسكرية تمتد لأكثر من أربعة عقود، شهدت خلالها صراعات دامية وتضحيات جسيمة. بعيدًا عن شهاداتنا الشخصية وخبراتنا السياسية المتواضعة، لا بد من الوقوف عند حقيقة أن هذه المنظمة، منذ تأسيسها وحتى اليوم، قد تركت بصمات واضحة على مسار القضية الكوردية. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل كانت تلك البصمات إيجابية؟

واقع مرير: بين البداية والنهاية
لا يمكن إنكار أن تأسيس أي منظمة سياسية يتطلب تبريرًا واقعيًا يتجاوز الرغبات الشخصية لبعض القيادات أو الضغوط التاريخية. لكن ما حدث مع حزب العمال الكوردستاني كان بعيدًا عن هذا المنطق. تأسست  على يد عناصر تنتمي لاتجاهات متعددة، وفي ظل ظروف غامضة ،  في بيئة سياسية مشحونة، واختارت نهج العمل العسكري بعد ست سنوات من بداياتها، مما جعلها تنخرط في صراعات مسلحة استنزفت طاقات كبيرة وأودت بحياة الآلاف من أبنائنا.

على مدى سبعة وأربعين عامًا، تكررت الأخطاء نفسها، وبدلاً من التوقف لمراجعة المسار، استمرت المنظمة في نهجها القتالي. بعد سنوات من النضال والكفاح، وعندما سنحت الفرصة أخيرًا، اختار حزب العمال الكوردستاني مسار السلام والعقلانية في مفاوضات ماراثونية، معتمدًا رؤية جديدة تركز على حرية الأفراد والانخراط في مرحلة مختلفة.

بهذا التحول، تبنى الحزب نهجًا جديدًا يقوم على التعايش السلمي، بعيدًا عن الصراع، متطلعًا إلى مستقبل أكثر استقرارًا.
ورغم قناعتي الشخصية منذ زمن بعيد بأن وجودها بهذا الشكل طوال الأعوام كان مضرًا، وبقاؤها لا يخدم التغيير المنشود، إلا أنني كنت دائمًا متحفظًا على انتقاد جوهر التأسيس والعمل العسكري، احترامًا لتضحيات الشهداء وواقع التشرد الذي طال عشرات الآلاف من الكورد.

ماذا جنى من القتال؟ وما نتائج العمل العسكري؟
عندما نحلل تجربة الحزب، نجد أن تأسيسه على أسس عسكرية بحتة أدى إلى نتائج غير مرضية. لقد دفعت القضية الكوردية ثمنًا باهظًا بسبب تحويل النضال السياسي إلى مواجهة مسلحة طويلة الأمد. ورغم تغير الظروف السياسية الإقليمية والدولية، بقي الحزب متمسكًا بمنهجه، معتبراً أن السلاح هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق الأهداف.
لكن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن هذه الاستراتيجية كانت سببًا رئيسيًا في تصاعد الصراع الداخلي، وتحويل وجهة النضال من مواجهة الأنظمة القمعية إلى صراعات مع أطراف كوردية أخرى. في كل مرة، كان الحزب ينتهي إلى النقطة نفسها التي بدأ منها، دون مراجعة حقيقية أو تغيير في النهج.

الأخطاء المتراكمة: ماذا بعد؟
من المؤسف أن نرى كيف تراكمت الأخطاء دون أن يتوقف الحزب لمراجعة حساباته. التجمع في مناطق مثل لبنان وسوريا، وإقليم كوردستان – العراق بالذات، بعيدًا عن الساحة الكوردستانية الحقيقية، تركيا، جعل الحزب ينفصل عن الواقع الكوردي هناك ويعتمد على أجندات خارجية لم تخدم المصلحة العامة.
لا يمكن تجاهل دور إيران وسوريا ولبنان،في دعم الحزب على مدى سنوات طويلة، لكن هذه العلاقة لم تكن في كثير من الأحيان قائمة على أسس قومية خالصة، بل كانت مرتبطة بمصالح إقليمية متغيرة. ومع تغير موازين القوى في المنطقة، أصبح الحزب رهينة لسياسات دولية لا تخدم قضية الكورد.

ضياع البوصلة: هل انتهت اللعبة؟
بعد أحداث السابع من أكتوبر وضرب إسرائيل من قبل حركة حماس، وما تلاه من استهداف لقادة حماس وحزب الله وانهيار الموقف السوري، بدأت تتضح معالم جديدة في المنطقة. ومع سحب إيران إلى مربعها الأول، يمكن القول إن الحزب فقد دعمه التقليدي، وأصبح في موقف ضعيف.
ورغم ذلك، نرى الآن جهودًا أثمرت في الدفع نحو المفاوضات والسلام، ورحلات ماراثونية للتوصل إلى حلول سياسية. لكن السؤال هو: هل يملك الحزب الإرادة الحقيقية لتغيير نهجه العسكري والانخراط في مسار ديمقراطي؟

حدث ذلك قبل يوم، حين صدر البيان عبر الفضائيات، وكان من الجيد اتخاذ هذه الخطوة، إذ أسدل الستار على مرحلة تثير الكثير من التساؤلات. ورغم كل شيء، يمكن اعتبار هذا القرار خطوة في الاتجاه الصحيح.

الكورد أمام خيارين: هل من فرصة للتغيير؟
الكورد اليوم في مرحلة حرجة، حيث بات من الضروري اتخاذ خطوات جادة نحو إعادة تقييم الوضع. على الجميع أن يدرك أن النضال السياسي القائم على الحوار والديمقراطية هو السبيل الوحيد لتحقيق التغيير الحقيقي.
إن تبني نهج الانتخابات والروح البرلمانية هو السبيل للتخلص من عقلية العنف، سواء في الإدارة أو المعارضة، التي لم تنتج سوى المزيد من التشتت والانقسام. وإذا كانت الأطراف جادة في دعواتها للسلام، فعليها إثبات ذلك عبر خطوات عملية تضمن مشاركة شعبية فعلية، وتفسح المجال أمام الكفاءات السياسية للمساهمة في بناء مستقبل أكثر استقرارًا، قائم على الحوار والشراكة الوطنية الحقيقية.

رسالة عتاب: أليس من حق الشعب أن يعرف؟
ما يثير الاستغراب حقًا ليس الإعلان بحد ذاته، فقد سبقته مفاوضات طويلة قطعت فيها جميع الأطراف أشواطًا في الحوارات الإقليمية والدولية. لكن المفاجأة كانت في إعلان الحزب، خلال مؤتمر رسمي، عن قطع الصلة بالاسم وحل الحزب نهائيًا، وكأن شيئًا لم يحدث.
هذا التحول المفاجئ في الهوية يثير تساؤلات عديدة: أين ذهب تاريخ الصراع الطويل؟ ماذا عن التضحيات والدماء التي سالت؟
نترك الإجابة لأهل البحث في قادم الأيام والسنوات.
لقد كان الشعب جزءًا من هذه المسيرة، ومن حقه أن يعرف الحقيقة كاملة. ليس من العدل طي صفحة الماضي دون مكاشفة صريحة تكشف أسباب هذا التحول المفاجئ. وإذا كان الهدف هو التصحيح، فلماذا لم يتم الاعتراف بالأخطاء من البداية؟

إننا لا نسعى إلى الطعن أو الانتقاد المجرد، بل نبحث عن التفاتة جادة نحو مسار أكثر واقعية. إن الدعوة إلى عملية سلام شاملة تنبثق من النوايا الصادقة والروح الديمقراطية هي مسؤولية الجميع.

قد يعجبك ايضا