السياسة الاستعمارية والحركات التحررية

الأستاذ الدكتور : نزار الربيعي

يُعد التوسع الاستعماري عزيزي القارئ، منذ بداية عصر الاكتشافات الجغرافية وحتى أوائل القرن العشرين حدثاً من الأحداث الأكثر أهمية في تاريخ الإنسانية، لأنه أسهم كثيراً في حركة التغريب Occidentalisation التي أثرت في جميع القارات بدرجات مختلفة، وقد تم هذا التوسع سواء عن طريق احتلال مناطق غير مأهولة أو قليلة السكان هاجرت إليها جماعات كثيفة إلى حد ما من المهاجرين الأوروبيين أو بامتداد السيطرة السياسية والاقتصادية على شعوب اخضعت بالطرق السليمة أو بالوسائل العسكرية .

تاريخياً، لم يجر هذا التوسع وفقاً لخطة زمنية منتظمة، وإنما مر بمراحل متتابعة من التقدم والتقهقر. فبعد تأسيس الامبراطوريات في القرن السادس والسابع والثامن عشر، شكلت ثورة المستوطنين الانكليز في أمريكا الشمالية بداية عصر التحرر من الاستعمار Decolonisation وتبع تأسيس الولايات المتحدة انحلال الامبراطوريات الإسبانية والبرتغالية في أمريكا الوسطى والجنوبية. كما انتقلت كندا وأستراليا ونيوزيلندة وأفريقية الجنوبية من حالة التبعية إلى حالة المساواة في نطاق الكومنولث عن طريق التطور الدستوري التدريجي .

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل يطبق على البلدان التابعة أو الخاضعة والتي استولت عليها الدول الاستعمارية الغربية في نهاية القرن التاسع عشر ما يطبق على المستعمرات التي يسكنها مواطنون من أصول أوروبية؟ هذا ما ظنه بعض الأنجليز لإيمانهم بأن التطور الاقتصادي والديمقراطي والحكم الذاتي أمور لا يمكن الفصل بينها، أما الفرنسيون فيقولون بعدم جواز تجزئة الرعايا ولا بد من ارتقائهم إلى حالة باقي المواطنين، ولكن الحقيقة المرة أن السواد الأعظم من الأوروبيين المستعمرين لم يفكروا حتى الحرب العالمية الثانية بمستقبل المستعمرات وإنما كان اهتمامهم منصباً على حاضرها فقط، لإحساسهم بالتفوق الناجم عن نفوذ حضارتهم وتطورهم الاقتصادي، ولكن هل استمرت الدول الاستعمارية على سياستها تلك بنهب المستعمرات واستغلالها أم حاولت تطوير هذه البلدان ونقل مزاياها الثقافية والفكرية والاجتماعية والعلمية والتجارية والخاصة بشعوبها المتقدمة إلى شعوب البلدان المستعمرة المحرومة منها؟

وللإجابة عن هذا السؤال يمكن القول إن الاستعمار قد تخلى إلى حد كبير عن طابع الاستغلال واستبداله بنظام تبادل المنافع والمشروط بمعنى أن الدول المستعمرة هي التي تعين وحدها جدول هذا التبادل ودون استشارة الشعوب المستعمرة (المستعبدة) وحتى تلك التي كان لها حضارات عريقة.

وكان أن صوتت الحكومة البريطانية على أول قانون لتنمية المستعمرات في عام 1928 بمبلغ مليون جنيه استرليني فقط، أما فرنسا فقد بقيت حريصة على التمسك بالمادة 13 من القانون المالي الفرنسي لسنة 1900 والتي تنص على أن المستعمرات تتحمل بنفسها جميع مسؤولياتها بالاعتماد على الضرائب والقروض ولا تتحمل ميزانية فرنسا سوى النفقات اللازمة للدفاع والإدارة.

وكان الإمبرياليون الإنجليز ينتشون حماساً لدى رؤية أراضي إمبراطوريتهم على الخارطة ملونة باللون الوردي وتغطي مناطق كبيرة من العالم. كما تعلم طلاب المدارس الفرنسيون أن بلدهم يمتد على قارات العالم الخمس .
في حين كانت الدول الاستعمارية تعمل من أجل استمرارية هذا الوضع ودوامه، بدأ التطور في المستعمرات بعد الحرب العالمية الأولى وبشكل غير منظور إلا أنه لم يتوقف بعد ذلك لأن الأفكار التحررية لم تكن قد تولدت بعد لدى الشعوب المستعمرة كلها، وإنما بين الأكثر نضجاً منها كما أسهمت أوروبا نفسها بذلك باستقبالها نخبة من أبناء المستعمرات في مدارسها وجامعاتها، حيث تعلموا فيها الحرية ومبادئ التحرر .

كما يمكن القول إن الحرب العالمية الثانية قد قربت من أجل الاستعمار بشكل مفاجئ، إذ كان لمبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، والذي ورد في ميثاق الاطلسي ثم في ميثاق سان فرنسيسكو صدى مدو لدى الشعوب المستعمرة، ووصل صداه إلى شعوب آسيا وأفريقيا، والتي أخذت تنادي بحق تقرير المصير وخلاصهم من حالة الاستعمار والتبعية والتي يعزون إليها تعاستهم وتخلفهم، وفتحت أمامهم الخيارات السياسية المستقبلية وكانت تدور حول صيغتين هما الاستقلال الكامل والحكم الذاتي في إطار مجموعة سياسية (كومنولث أو اتحاد أما صيغـة الاستيعاب عن طريق اندماج البلدان المستعمرة الكامل مع الدول المستعمرة فلم تعد ملائمة لتطلعات الوضع الجديد وإن عادت للظهور من حين لآخر كما حصل مع فرنسا ومحاولتها فرنسة الجزائر العربية، غير أن الجميع كان يعلم أنها غير ممكنة التحقيق.

وبشكل عام لم تكن الدول المستعمرة مهيأة بعد لقبول المطلب الجديد الذي يطالب به أبناء المستعمرات وبريطانيا العظمى كانت الدولة الوحيدة التي طبقت بنجاح الكومنولث في كل من الهند وسيلان قبل أن تطبقه بتردد في مستعمراتها في أفريقيا الغربية، ورفضت القوى الاستعمارية الأخرى تحقيق هذا النمط من التحرر الاستعمار إذ أنها لم تسلم بعد بأن الحركات التحررية التي ظهرت بين شعوب آسيا وأفريقيا تشكل موجة عميقة الجذور سرعان ما تنمو وتزدهر وتجرف كل ما يقف في طريقها.

قد يعجبك ايضا