تجاوز المجتمعات لمخاض النزاعات والحروب وبناء سلام دائم هو هدف نبيل وممكن التحقيق. لا توجد وصفة سحرية واحدة، لكن هناك مجموعة من الاستراتيجيات المتكاملة التي أثبتت فعاليتها في تحقيق السلم الأهلي المستدام بعد النزاعات.
من الامور المهمة بمكان ضرورة معالجة الأسباب الجذرية للنزاع بتحقيق العدالة الانتقالية، اذ لا يمكن تجاوز الماضي من دون محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات وجبر ضرر الضحايا؛ يشمل ذلك المحاكمات، ولجان الحقيقة والمصالحة، وبرامج التعويضات، والإصلاح المؤسسي؛ هذا يساعد على طي صفحة الماضي ومنع تكراره.
كما تشمل متطلبات تحقيق السلم الاهلي الإصلاحات السياسية والاقتصادية الشاملة، اذ غالبا ما تكون النزاعات ناتجة عن مظالم سياسية واقتصادية، ويتوجب معالجة هذه المظالم عن طريق إصلاحات ديمقراطية، وتوزيع عادل للثروة، ومكافحة الفساد، وتمكين المشاركة السياسية لجميع الفئات، فذلك أمر بالغ الأهمية لبناء الثقة والاستقرار.
ويجب تعزيز الحكم الرشيد وسيادة القانون ببناء مؤسسات قوية ونزيهة تضمن تطبيق القانون على الجميع بشكل عادل، وتحمي حقوق الإنسان، وتوفر الخدمات الأساسية، فيتعزز شعور السكان بالأمان والانتماء، كما يجب بناء الثقة والمصالحة بين المجتمعات المتنازعة بالحوار والتواصل، اذ يخلق ذلك مساحات آمنة للعلاقات الإيجابية بين الأطراف المتنازعة على شتى المستويات (قيادات، مجتمعات محلية، أفراد) بما يساعد على فهم وجهات النظر المتنوعة، وتذويب الخلافات، وبناء أرضية مشتركة.
كما يتوجب دعم المبادرات التي تجمع أفرادا من خلفيات متنازعة للعمل معا في مشاريع مشتركة تخدم المجتمع، وتعزز التفاعل الإيجابي، وتكسر الحواجز النفسية، ومن الضروري الاعتراف بالضحايا وتخليد وتكريم ذكراهم بشكل لائق فيساعد ذلك على معالجة الصدمات الجماعية ويعزز الشعور بالتعاطف والتضامن.
ومن اشتراطات تحقيق السلام في البلد تعزيز التنمية الشاملة والمستدامة، بالتركيز على التنمية الاقتصادية، ويشمل ذلك بالدرجة الاولى توفير فرص العمل، وتحسين مستوى المعيشة، ومعالجة الفقر والبطالة، فتقلل تلك الاجراءات من دوافع العنف وتسهم في بناء مستقبل أكثر استقرارا وازدهارا للجميع.
وكذلك يجب الاستثمار في التعليم والصحة بضمان حصول الجميع على تعليم جيد ورعاية صحية مناسبة يعزز رأس المال البشري ويسهم في بناء مجتمع أكثر قوة ومرونة، ومن المتطلبات الاساسية ايضا إشراك الشباب والمرأة بشكل فعال في عمليات بناء السلام والتنمية فنضمن بهذا تمثيلا أوسع لوجهات النظر ونسهم في تحقيق نتائج أكثر شمولية واستدامة.
وكذلك من ضرورات تحقيق السلم المجتمعي بناء مؤسسات قادرة على الحفاظ على السلام، و إصلاح القطاع الأمني ببناء قوات أمن محترفة وخاضعة للمساءلة تحمي جميع السكان من دون تمييزعلى اساس ديني او مذهبي او قومي وهو أمر ضروري لمنع تجدد العنف.
ويتوجب ايضا دعم منظمات المجتمع المدني وتمكينها من تأدية دور فاعل في مراقبة عمل المؤسسات الحكومية، وتعزيز حقوق الإنسان، وتقديم الخدمات للمجتمعات المتضررة، و بناء ثقافة السلام بدمج مفاهيم السلام والتسامح والتعايش السلمي في المناهج التعليمية ووسائل الإعلام والخطاب العام لغرس قيم السلام في الأجيال المقبلة.
ان الحصول على الدعم المالي والفني والسياسي من المجتمع الدولي يؤدي دورا هاما في دعم جهود بناء السلام المحلية، وذلك يشمل التعاون الإقليمي وبناء علاقات حسن جوار وتعاون مع الدول المجاورة وبذلك نكون قد اسهمنا في خلق بيئة إقليمية مستقرة تدعم السلام الداخلي.
التجربة العراقية
في العراق تعرض السلام الى مشكلات كبيرة واصبح ذلك هما رئيسا لسكان البلاد، و إن استمرار النزاعات وتأثيرها العميق على المشهد السياسي والسلم الأهلي في العراق يرجع إلى عدة أسباب متداخلة ومعقدة، من أبرزها،الإرث الثقيل للنزاعات السابقة، بسبب تراكم الصدمات والانقسامات اذ ان عقودا من الحروب والصراعات الداخلية والخارجية خلفت ندوبا عميقة في النسيج الاجتماعي العراقي، وولدت تراكما من المرارات وعدم الثقة بين شتى المكونات. هذه التراكمات التاريخية جعلت تجاوز الخلافات وبناء الثقة عملية طويلة وشاقة، ولكنها ممكنة التحقق.
ان استمرار النزاعات لمدة طويلة أدى إلى ترسيخ ثقافة العنف كوسيلة لحل الخلافات في بعض الأحيان، وإلى ضعف آليات المحاسبة وسيادة القانون، مما يشجع على تكرار العنف والإفلات من العقاب.
وبحسب الباحثين، فان عملية تقاسم السلطة المتمثلة بالمحاصصة الطائفية والإثنية التي وسمت النظام السياسي القائم في العراق، الذي شكلت بموجبه الحكومات على أساس طائفي وإثني، الذي جرى تبنيه بعد عام 2003، غالبا ما يؤدي إلى تفضيل المصالح الفئوية على المصلحة الوطنية، ويعمق الانقسامات، ويخلق حالة من التنافس الشديد على الموارد والنفوذ؛ و هذا النظام يجعل من الصعب بناء رؤية وطنية موحدة ويعوق عملية صنع القرار.
وبرغم الجهود المبذولة، لا زالت المؤسسات الحكومية والقضائية تعاني من ضعف وتداخل في الصلاحيات وتأثيرات سياسية، مما يضعف قدرتها على تطبيق القانون بشكل عادل على الجميع ويسهم في استمرار الشعور بالإفلات من العقاب.
كما ان بعض القوى السياسية، سعيا وراء تحقيق مكاسب انتخابية أو تعزيز نفوذها، قد تلجأ إلى تأجيج الانقسامات الطائفية والإثنية واستغلال المخاوف والهواجس لدى بعض المكونات. هذا السلوك يقوض جهود بناء الوحدة الوطنية ويعوق المصالحة، وكذلك فان الصراع المستمر بين القوى السياسية المختلفة على السلطة والموارد والنفوذ، بخاصة في اوقات الانتخابات أو عند حدوث مستجدات إقليمية أو دولية، يخلق حالة من عدم الاستقرار السياسي ويؤثر سلبا على السلم الأهلي.
وهنا فان غياب رؤية وطنية مشتركة يعقد الامر، بسبب افتقار بعض القوى السياسية لرؤية وطنية شاملة تتجاوز المصالح الفئوية الضيقة، يجعل من الصعب الاتفاق على أولويات وطنية مشتركة والعمل بشكل موحد لتحقيق الاستقرار والازدهار للبلاد.
وكذلك لطالما كان العراق ساحة لتنافس قوى إقليمية ودولية، وقد أدت هذه التدخلات في بعض الأحيان إلى تأجيج الصراعات الداخلية ودعم أطراف معينة على حساب أخرى، مما يعوق بناء سلام داخلي مستدام. ان أي توترات أو صراعات إقليمية غالبا ما تلقي بظلالها على الوضع الداخلي العراقي، وتزيد من حدة الاستقطاب السياسي وتؤثر على السلم الأهلي.
إن استمرار هذه العوامل يشكل تهديدا حقيقيا للسلم الأهلي في العراق بعدة طرق، من ذلك تعميق الانقسامات المجتمعية، اذ يؤدي إلى زيادة الشك وعدم الثقة بين المكونات المتنوعة، ويجعل من الصعب تحقيق مصالحة حقيقية وتجاوز الماضي، كما يقوض ذلك الاستقرار السياسي بخلق بيئة سياسية متوترة وغير مستقرة، ويعوق عمل المؤسسات الحكومية، ويؤخر تنفيذ الإصلاحات الضرورية، وتتأخر التنمية والازدهار، حيث ان حالة عدم الاستقرار والصراعات السياسية تعوق جهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتؤثر سلبا على حياة الناس.
وفضلا عن ذلك يتهدد الأمن، فتتوفر بيئة خصبة لعودة العنف والتطرف، ويجعل ذلك من الصعب بناء قوات أمن وطنية موحدة وقادرة على حماية جميع المواطنين، كما تدفع تلك العوامل الى تأجيج الخطاب الطائفي والعنصري، بما يؤدي إلى انتشار الكراهية والتحريض على العنف، ويقوض جهود بناء مجتمع متسامح ومتعايش.
باختصار، إن تجاوز إرث النزاعات وبناء سلم أهلي دائم في العراق يتطلب معالجة جذرية للأسباب العميقة لهذه الصراعات، وبناء نظام سياسي أكثر شمولية وعدالة، وتغليب المصلحة الوطنية على المصالح الفئوية الضيقة، وتقليل التدخلات الخارجية، وتعزيز ثقافة السلام والمواطنة المشتركة. إنها مهمة صعبة وطويلة الأمد، لكنها ضرورية لتحقيق مستقبل أفضل لجميع العراقيين.
نماذج الدول لصنع السلم المانيا واليابان
يمكن النظر إلى تجربتي اليابان وألمانيا كانموذجين ملهمين لكيفية تجاوز ويلات الحرب وتحقيق مجتمع آمن ومزدهر يتمتع بالسلم. وبرغم اختلاف سياقاتهما التاريخية والثقافية عن العراق، إلا أن هناك دروسا قيمة يمكن استخلاصها من تجربتيهما.
ففي ألمانيا، بعد الحرب العالمية الثانية التي خلفت دمارا هائلا وانقساما عميقا، اتبعت مسارا دقيقا ومعقدا نحو بناء السلام والاستقرار. من أبرز الخطوات التي اتخذتها، الاعتراف الكامل بالمسؤولية والمحاسبة، اذ واجهت ألمانيا تاريخها النازي وجرائم الحرب بشكل مباشر وصريح؛ شمل ذلك محاكمات نورمبرغ للمجرمين النازيين، وتقديم اعتذارات رسمية للضحايا والدول المتضررة، وتضمين تدريس هذه الحقبة المظلمة في المناهج التعليمية لضمان عدم تكرارها، هذا الاعتراف بالمسؤولية كان خطوة حاسمة نحو المصالحة الداخلية والخارجية.
وجرت ايضا اعادة بناء المؤسسات الديمقراطية القوية وبناء نظام ديمقراطي برلماني قوي يضمن الفصل بين السلطات، وحماية حقوق الإنسان، وحرية التعبير، وكذلك التركيز على بناء مؤسسات شفافة وخاضعة للمساءلة تحظى بثقة السكان.
ونفذت المانيا عملية إعادة الإعمار الاقتصادي والاجتماعي الشامل، فبفضل خطة مارشال والمجهودات الداخلية، جرت إعادة بناء البنية التحتية والاقتصاد الألماني بشكل سريع بالتركيز على توفير فرص العمل والرعاية الاجتماعية، مما اسهم في استقرار المجتمع وتقليل دوافع العنف والجرائم.
و أدركت ألمانيا أن مستقبلها يكمن في التعاون والسلام مع جيرانها الأوروبيين، فأدت دورا محوريا في تأسيس الاتحاد الأوروبي، وعملت بجد على بناء الثقة وتجاوز العداوات التاريخية مع الدول الأخرى.
وجرى التركيز على تعزيز قيم التسامح والديمقراطية والسلام في المجتمع عن طريق التعليم ووسائل الإعلام والمبادرات الثقافية. وجرى إنشاء عديد النصب التذكارية والمتاحف لتخليد ذكرى الضحايا وتذكير الأجيال المقبلة بأهوال الحرب وضرورة السلام.
اما اليابان، فبعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية والقصف الذري الذي تعرضت له، سلكت أيضا طريقا تحوليا نحو السلام والازدهار. من أهم خطواتها، اعتماد دستور مسالم، اذ تبنت اليابان دستورا جديدا ينبذ الحرب ويحظر امتلاك القدرات العسكرية الهجومية. هذا الدستور شكل أساسا لسياسة خارجية سلمية وركز على التنمية الاقتصادية والدبلوماسية.
كما جرى التركيز على التنمية الاقتصادية والتكنولوجية، اذ وجهت اليابان مواردها بشكل كبير نحو إعادة بناء اقتصادها وتطوير التكنولوجيا، هذا التركيز على الازدهار الاقتصادي خلق فرص عمل وحسن مستوى المعيشة، مما اسهم في الاستقرار الاجتماعي.
كما عملت اليابان على بناء علاقات ودية وتعاونية مع الدول الأخرى، بما في ذلك تلك التي كانت في حالة حرب معها. ركزت على الدبلوماسية والاسهام في المنظمات الدولية لتعزيز السلام والاستقرار العالمي، وكذلك قدمت اليابان اعتذارات وتعبيرات عن الأسف للدول التي تضررت من أفعالها ابان الحرب، وبرغم أن هذه الاعتذارات لم تكن دائما كافية في نظر البعض، إلا أنها كانت خطوة مهمة نحو المصالحة.
واستثمرت اليابان في التعليم والقيم السلمية بالتركيز على تعليم الأجيال الشابة قيم السلام والتسامح والتعاون الدولي، وجرى التأكيد على أهمية التعلم من الماضي لتجنب تكرار الأخطاء.
الدروس المستفادة للعراق
من تجارب الدول في تحقيق السلام يمكن استخلاص بعض الدروس الهامة للعراق، من ذلك أهمية الاعتراف بالماضي والمحاسبة، وان مواجهة إرث النزاعات بصدق وشفافية ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات هي خطوات ضرورية لتحقيق المصالحة وبناء الثقة، وتنبثق هنا ضرورة بناء مؤسسات ديمقراطية قوية وشاملة، بنظام سياسي عادل يمثل جميع المكونات ويضمن سيادة القانون وحماية حقوق الإنسان فذلك أساس الاستقرار.
ويجب توفير فرص العمل وتحسين مستوى المعيشة ومعالجة المظالم الاقتصادية، فان ذلك يقلل من دوافع العنف ويسهم في بناء مجتمع أكثر استقرارا، وتعزيز قيمة المصالحة الوطنية والجهود المجتمعية، اذ ان بناء جسور الثقة بين المكونات المتنوعة عن طريق الحوار والمبادرات المشتركة أمر بالغ الأهمية لتحقيق السلم الأهلي، ويأتي دور التعليم والثقافة حاسما في تعزيز قيم السلام، بغرس قيم التسامح والتعايش السلمي في الأجيال المقبلة اذ ان ذلك استثمار طويل الأمد في مستقبل مستقر، كما ان على العراق الانفتاح على التعاون الإقليمي والدولي، ببناء علاقات إيجابية مع الجيران والمجتمع الدولي وذلك يمكن أن يوفر الدعم المطلوب لجهود بناء السلام الداخلية.
وبحسب الباحثين فان العراق يشهد مخاطر كثيرة تواجه عملية بناء السلم الأهلي، ومن ذلك غياب السياسة الفاعلة لتوفير فرص العمل بتشغيل المصانع وتفعيل الزراعة و دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وتشجيع الاستثمار، كما ظلت مؤسسات الدولة متلكئة ومقصرة في تحسين الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم والإسكان، لتحسين مستوى معيشة السكان؛ وعلى صعيد مكافحة التطرف والإرهاب ودعم الاعتدال، وتجفيف منابع التمويل وحصر السلاح بيد الدولة الذي يجري الحديث عنه كثيرا لاسيما في هذه المدة، فلم تنفذ اجراءات عملية بذلك، وذلك يصح ايضا عن غياب دور النساء وتغييب حقوقهن وتمكينهن من المشاركة في الحياة العامة، فجرى السعي عوضا عن ذلك الى محاولة سن قوانين متخلفة فيما يتعلق بقضايا المرأة مثل الزواج والطلاق والميراث، ولولا ضغوط بعض منظمات المجتمع المدني لانحدرت الامور الى اسوأ من ذلك؛ وهنا يجمع الباحثون على ان بناء مجتمع مدني قوي لدعم الحوار والتسامح، ومراقبة أداء الحكومة يشكل الضمانة لعدم الانهيار الشامل في بنية المجتمع، وبناء سلم اجتماعي حقيقي