ماهين شيخاني
في زمنٍ تتسارع فيه الحياة، وتتقاطع فيه الطرقات دون أن ننتبه لمن عبر، باتت لحظات اللقاء الصادق نادرة، بل تكاد تكون معجزة صغيرة تحدث دون ميعاد. ومع ذلك، هناك أماكن وأوقات يصنعها الناس، لا تضيّعها المواعيد ولا تؤطرها البروتوكولات، بل تحكمها الغاية النبيلة: أن نتشارك لحظة إنسانية حقيقية.
في زاوية شارع بسيط، وعلى كراسٍ بلاستيكية مهترئة، كنت أجلس مع ثلاثة رجال. لا يجمعنا حزب، ولا مؤسسة، ولا مصلحة. ما جمعنا أعمق من ذلك بكثير: الوجع الإنساني، والتعب اليومي، والإيمان بأن للحياة معنى لا يُقاس بما نملك، بل بما نمنح.
كلٌّ منا كان يحمل شيئًا أكبر من نفسه.
أحدهم نحات، عاشق للتراب والحجر، يحاور الجماد ليُخرجه من صمته. عمل أربع سنوات متواصلة على مشروع نحتٍ فنيّ، ليس مدفوعًا بطلب، ولا بتمويل، بل بحاجة داخلية لأن يُنجز شيئًا يرضي ضميره.
الآخر، متقاعد أكاديمي، تجاوز السبعين، لكنه لم يتقاعد من الحياة. يُدرّس، يكتب، يسافر، ينقل معارفه لشباب يبحثون عن طريق وسط الخراب. لا يملّ، بل يتجدد كلّما شعر أن كلمته لامست عقلًا عطشًا.
الثالث، قريب لي، يعمل لساعات طويلة في محله، لكنه رغم عناء الرزق، يختصّ بعمل إنساني فريد. يعرفه الناس ببابه المفتوح للمرضى والمحتاجين، يساعدهم بهدوء وتواضع. لا يسألهم عن الاسم ولا عن الانتماء، بل عن حاجتهم، كأنّه مؤسسة خيرية تمشي على قدمين.
أما أنا، فكنت أتأملهم، وأفكر في حوارنا البسيط. تحدثنا عن التعب، عن السفر، عن السهر، عن الكتابة والضغط والأدوية. قال لي قريبي بابتسامة محبّة:
“استرح قليلاً، أراك لا تنام، هذا التعب يُنهكك.”
فأجبته ممازحًا:
“لقد كبرنا… وأريد أن أفرغ ما في جوفي على الورق.”
لكن ما لم أقله هو أن هذا “الفراغ” الذي نكتبه، هو ما يُبقي صدورنا عامرة، هو صراخ مكتوم نحاول أن نُنطقه بوسائلنا المتاحة.
المعنى الأعمق
في عالم باتت فيه القيم تُقاس بالربح والخسارة، كان جلوسنا نحن الأربعة إعلانًا ضمنيًا بأن هناك من لا يزال يؤمن بأن القيمة الحقيقية هي الإنسانية.
نُرضي ذواتنا حين نعمل بصدق.
نُقاوم اليأس حين نُمسك بالأمل في شكل نحت، أو مقالة، أو خدمة، أو كلمة.
نلتقي لا لأننا نشبه بعضنا تمامًا، بل لأننا نتقاطع عند تلك النقطة النادرة التي لا تحتاج إلى تعريف: إنسانيتنا.
لماذا هذا مهم الآن؟
لأن المجتمع، أي مجتمع، لا يُقاس بعدد أبنيته ولا بأحدث تقنياته، بل بمدى قدرته على الحفاظ على من يحملون هذا الشعور الداخلي بالمسؤولية: مسؤولية أن تكون إنسانًا.
الإنسان الذي يُنجز فنًا من أجل الجمال، لا من أجل الجائزة.
الذي يشرح درسًا ليُنقذ عقلًا، لا ليجمع مالًا.
الذي يفتح دكّانه للفقراء كما يفتحه للزبائن.
الذي يكتب، لأن الكلمات أحيانًا تنقذ روحًا تائهة.
في الختام: دعوة قلبية مفتوحة
لست بحاجة إلى أن تكون مشهورًا أو غنيًا أو حاصلًا على ألقاب لتكون مؤثرًا في محيطك. يكفي أن تستيقظ كل يوم وأنت تحمل في داخلك نية طيّبة، أن تفعل شيئًا صغيرًا بروح كبيرة. أن تُعطي دون أن تنتظر شيئًا.
ابدأ من حيث أنت، بما تملك، ومن حولك. لا تبحث عن الضوء، كن أنت الضوء. لأن النور الحقيقي لا يُصنع من الكهرباء، بل من الوعي، من اللطف، من الحب، من الكلمة التي تُداوي، من اليد التي تُمسك بيد الآخر.
في كل شارع هناك زاوية يمكن أن تنبت فيها إنسانية جديدة. وفي كل إنسان توجد بذرة جمال… لا تحتاج إلا لقليل من العناية، وكثير من الإيمان.
فلنبحث عن النقطة الأجمل فينا…
ولنلتقِ هناك، حيث لا يُخيّبنا اللقاء:
إنسانيتنا.
“قد لا نُغيّر العالم، لكن يكفينا أن لا نزيده قبحًا.”