بلا أثر… بلا نهاية

ماهين شيخاني

كان اختفاؤه بداية لحكاية لم تجد نهاية… بلا أثر، بلا قبر، بلا وداع.
يقول الراوي، وقد أثقله الحزن حتى تقوّست كتفيه:
“أخي ماجد… كان يعمل في العاصمة، بسيطًا كأحلامه، ينقل الخضار بسيارته الصغيرة. تعرّف هناك على فتاة طيّبة وتزوّجها، وعاشا معًا ستة أشهر فقط. ثم، ذات صباح، انطلق بسيارته نحو سوق آخر تسيطر عليه المعارضة، بحثًا عن رزقه، فلم يعد.”
لم نكن نعلم شيئًا، ولم نسمع سوى همسات الجيران:
“اعتقلوه بتهمة نقل أسلحة!”
كأنّ لقمة العيش أصبحت تهمة، وكأنّ من يجرؤ على عبور شارعٍ مختلف يُدان مسبقًا.
كانت الحرب قد طوّقتنا. لا ماء، لا طعام، لا مفرّ. حاولت مجموعة من الشبان كسر الطوق، وماجد كان بينهم. لم يبتعدوا كثيرًا حتى اعتقلهم جيش النظام. ومنذ تلك اللحظة، لم نر وجهه، لم نسمع صوته.
زوجته خرجت مع أهلها نحو منطقة آمنة في الجزيرة. طلبوا من ماجد أن يرافقهم، لكنه أبى. قال:
“أنا لست معارضًا، ولا سياسيًا، فقط رجلٌ يبحث عن خبزه اليومي. هذه داري وعملي، لمن أتركهما؟”
وظلّ على تواصل معهم… حتى انقطع كل شيء.
بحثنا عنه في المستشفيات، في السجون، في المقابر. سألنا حتى عن اسمه في صيدنايا… لا وثيقة تؤكّد وفاته، ولا بصيص أمل بخروجه.
ذهبنا إلى حيث كانت تقيم زوجته، لكنهم انتقلوا. كأن الأرض ابتلعتهم. لا أحد يعرف عنهم شيئًا. هكذا… فقدنا أخًا وزوجته في آن، بلا عنوان، بلا أثر.

نحن أربعة إخوة.
أحدنا سقط من الطابق الرابع أثناء عمله في المدينة… كُتب له عمرٌ آخر، لكنه خرج منه معاقًا، نصف إنسان.
الثاني صدمته سيارة مسرعة بينما كان ينتظر رفاقه.
والثالث… هو ماجد.
أما أنا، فقد بقيت أحمل الحكاية، وأتلوها على من يصغي، علّ أحدهم يعرف شيئًا… أو يسلّيني بوهم الإجابة.
تنهدت الأم ذات يوم وقالت:
“كل باب يُطرق، أظنه ماجد… وكل خطوة في الممر أسمعها، أحسبها قدميه.”
الحرب لم تقتلنا بالرصاص فقط، بل بنصل الغياب، ببطء القلق، بعذاب الانتظار. نحن لا ندفن أبناءنا، بل ندفن أسماءهم في ذاكرة لا تنام.
هكذا بقيت قصته كأنها جملة بلا نقطة… بلا أثر، بلا نهاية.

قد يعجبك ايضا