بين الفكر والثقافة والسياسة: حين يلتقي المثقف بالقيادي

د. ابراهيم احمد سمو

الحوار بين المثقفين ليس مجرد تبادل كلمات، بل هو عملية فكرية تثمر رؤى جديدة. الأفكار تتولد حين يتشارك أصحاب العقول المنفتحة ما لديهم، فيقدم المثقف نتاج قراءاته ومتابعاته، ليثبت بذلك أنه ليس ببخيل فكري، بل صاحب رأي يستحق التأمل. أما المتلقي، فيشعر وكأنه يضيف معلومات جديدة إلى ذاكرته العقلية، مثلما يضيف الحاسوب بيانات جديدة إلى نظامه.

هذا التفاعل الفكري يصل إلى ذروته عندما يجتمع أهل القلم والثقافة، خاصة إذا كان من بينهم قادة سياسيون يمتلكون ذخيرة واسعة من الوعي والإدراك، ويملكون القدرة على التقاط الأفكار حتى لو جاءت طائرة عابرة. المثقف الذي ذاق طعم المعرفة لا يمكنه العيش في واقع دائري مغلق؛ فهو يبحث دوماً عن الجديد، ويقود فكره نحو آفاق لا حدود لها، غير مكتفٍ بما هو متاح من معلومات عامة أو أخبار متناثرة هنا وهناك.

في المقابل، يعيش العامل البسيط واقعاً مختلفاً، ينحصر في النهوض صباحاً والبحث عن لقمة العيش، ليعود في نهاية يومه محملاً ببعض الحاجيات البسيطة، راضياً بما حققه. لكن المثقف لا يتوقف ذهنه عن العمل؛ حتى في لحظات الراحة، يظل فكره منشغلاً بتحليل ما مر به من تجارب، يبحث عن معنى أعمق ورؤية أشمل، وربما يتأمل واقعاً أكثر تعقيداً.

هذه المقدمة تقودنا إلى جوهر الموضوع: في الساحة السياسية، لا يمكن أن يتساوى القيادي المثقف مع الشخص العادي الذي يفكر في ساعات العمل ومعاشه وهموم عائلته. في كثير من الأحزاب، نجد قادة يفكرون بهذه الطريقة التقليدية، مما يجعلهم بعيدين عن روح القيادة الحقيقية التي تتطلب رؤية أعمق وتخطيطاً استراتيجياً.

على النقيض، عندما يظهر قيادي مثقف يتميز بقراءة جيدة واطلاع واسع، فإنه يفرض نفسه دون الحاجة إلى إقصاء الآخرين؛ فالمسألة لا تتعلق بإبراز الذات على حساب الآخرين بقدر ما تتعلق بجودة الفكر وعمق التحليل. المثقف الذي يمزج بين السياسة والثقافة لا يمكن أن يأتي دون قلم سباق ورؤية متقدة. ومن هنا، تبرز شخصيته كقائد مختلف قادر على التعامل مع التحديات بطريقة غير تقليدية.

في معظم الأحزاب، رغم القاعدة الكبيرة التي قد يمتلكها الحزب، إلا أن البارزين فيها قليلون، ويمكن حصرهم على أصابع اليد الواحدة. وهؤلاء غالباً ما يكونون محط انتقاد من بقية الأعضاء الذين لم يتمكنوا من الوصول إلى هذا المستوى من الفكر والقيادة. وإن وجد أحدهم يقوده زعيم ذو بصمة نضالية حقيقية، يصبح ذلك القائد غطاء لكل ضعف وفشل لدى الآخرين.

إن القائد المثقف، بحكم طبيعته الفكرية، لا يمكن أن يتكيف مع القيود الفكرية التي تفرضها بعض الأنظمة الحزبية المغلقة. وعندما يتولى زمام الأمور، يفتح آفاقاً جديدة أمام أعضاء حزبه، مما يجعله محط إعجاب وتقدير حتى من معارضيه. وبذلك، يصبح الحوار معه فرصة للتعلم، لا مجرد صراع على إثبات الذات.

هذه القراءة للأحداث تأتي من رحم الواقع، حيث تفرض الحقائق نفسها على الساحة السياسية والثقافية، وتجعل من المثقف القيادي رمزاً للتحول والتجديد، بعيداً عن التكرار والجمود. إن امتلاك الوعي والثقافة ليس مجرد رفاهية، بل هو ضرورة للقائد الذي يسعى لتجاوز المألوف، ليفتح أمام مجتمعه آفاقاً من الوعي والتطور

قد يعجبك ايضا