فاضل ميراني*
تأسس حزبكم سنة ١٩٤٦، و اختار المؤتمرون مصطفى البارزاني رئيسا للحزب بالاجماع، كان البارزاني يومذاك لاجئا في الاتحاد السوڤيتي، قاد تحركات سياسية و عسكرية مبكرة في التاريخ الحديث ليكون سباقا في احداث نهضة مؤثرة في الامة الكوردية، وسابقا لكل الاحداث التي تغيرت من منطقتنا جغرافيا و سياسيا و مجتمعيا قبل و اثناء و بعد ما احدثته الحرب العالمية الاولى و تبدل قوى الشرق المسيطرة لقرون على امتداد ارضي و بشري عاش فيه اجدادنا و شهدوا او ربما سمعوا بتقسيم امتهم ليكونوا مواطنين في كيانات سياسية بعضها معاد تركيبه و بعض معاد ترتيبه.
في الواقع و الحقيقة، ومن خلال التجارب الصعبة، ثبت لنا ان البارزاني لم يشبه ابدا قادة ثورات سبقوه او عاصروه او جاؤوا بعده، فحققوا شيئا ثم انتهى مشروعهم الى مطالب و غايات، مثل قلب نظام حكم او قلبه و الحلول محله مقدمين مشاريع فكرية او رؤى جمعية تهيكل تخطيط دولهم.
ابدا، وذلك هو الفارق الكبير بينه و بين غيره.
دخل البارزاني معترك الحياة مبكرا، بل مبكرا جدا، ولنبوغ في فكره فقد استوعب الواقع و فسره ببساطة رغم تعقيدات الواقع و امتداد مسلسه و تسلسله في القدم، واستحضر ادوات عمله و درس ما يمكّنه من الحراك للتأثير بالشكل و المضمون اللذين يشكلان خطوة تأسيسية لخطوة تالية.
ان امة مقسمة بين عدة انظمة ليس سهلا و لا نافعا التحرك لنيل حقها بالسلاح المجرد، كما انه ليس كافيا و لا مقنعا و مضمونا التعويل في ذلك على اشاعة حديث الحقوق بالتذمر، او الدخول في مواجهات مع مراكز قوى نسجت خطوطا لمصالحها مع الدول التي اخذت او تمسكت بجزء من كوردستان لتكبير اقاليمها.
لابد ان اقول هنا اننا نتكلم عن شيء من فكر البارزاني لا كل فكره، بل عن جزء حيوي يمثل ما هو اشبه بالقاعدة الدستورية التي يشتق منها القانون قاعدة او عدة قواعد له، ذلك ان البارزاني قد نرى من زاوية ضمن حدث او عدة احداث مرت به و مر بها وفي دوائر صراع متعددة، تصرف فيها بتفكير و احدث نتائج تشير الى فهمه لذاته و لشعبه و لذات خصومه و شعوب متفاعلة مع شعبه قربا او صداقة او جهلا منها بالكورد، فهما منه لكل ذلك بدقة و تجرد.
كانت واقعيته بناءة، ففي العقائد هو مسلم، ولا يرتضي افكار التشدد و يرفضها، لكنه بذات الوقت يحفظ لكل العقائد الروحية احتراما و ضمان دوام و حرية ممارسة، لان الضغط و التقييد او اعابة عقائد الاخرين هي اخطر ما تمارسه انظمة او تنظيمات حاكمة او سياسية، و البارزاني كان يفعل ذلك الفعل ايمانا لا مهادنة او تصنعا.
ومثل ما للعقائد الروحية و الاديان، كانت القوميات عند البارزاني محترمة، محمية، والانتماءات السياسية ايضا.
لم يكن البارزاني ليضع شروطا مسبقة في الشخوص ليتفاعل معها او لا، فليس عنده ان يكون الشخص من عرق معين و عقيدة بذاتها و متحزبا بمسمى محدد حتى تبدأ بينهما كيمياء علاقة منتجة، ابدا، و ما ترونه اليوم من تعايش وان كان اصيلا في اغلب افراد مجتنعنا الا انه يحمل تطعيما عمليا وضعه البارزاني وبذل فيه جهدا.
كان البارزاني مقاتلا، لكنه مقاتل دفاع ولا يقود هجوما الا لأجبار المعتدين على الجلوس للحوار، فبنادقنا و قذائفنا لصد عمليات الاعتداء لا للمبادرة بأشعال نار.
بناء الانسان عند البارزاني هدف، و خسارة فرد عند البارزاني امر فادح، والشجاعة عنده موقف لا تقتضي بالضرورة بذل روح او دخول معتقل، نعم كلنا و هو قبلنا مثل و نمثل استعدادا للفداء، لكن الدم و الفكر و الوجود لا يجب ان يبذلوا دون موجب.
لا يقبل البارزاني بفرض الرأي او املاء الاحكام، ولا ان يقنع الفرد برواية الخصم و رؤيته للحلول بشروط مسبقة، ابدا، فالبارزاني يعيد استحضار العوامل الموجودة الانسان و الحق وبقية القيم، ثم يشير للواقع و ما احدثته الممارسات فغيبت من الحقوق ما غيبت او حرفتها او ساومت عليها او قدمتها منقوصة.
قرأتم و ستقرأون عن ثورة ايلول و كولان و بيان حزيران و اتفاقية اذار و محاولة اغتيال البارزاني و الشهيد ادريس و محاولة اغتيال الرئيس مسعود البارزاني، و اعتقالات طالت اعضاء من حزبنا و سجنهم و اعدامهم و عمليات الانفال و كل سجلات التضحية، ومنها و بتجرد ايضا ستعلمون حجم قسوة العدو، و حجم اصرارنا على تصحيح المسار و احلال السلم بدل الحرب، و البناء بدل الخراب، و الزراعة بدل الحرق، و التعلم بدل التجهيل، و العفو بدل القصاص، و التعايش بدل الاحتراب، و التنوع بدل العنصرية.
ان اي صورتين من زمنين زمن عدونا لما حكم و زمن البارزاني لما اختاره شعبه ليحكم لكفيلتان بأن يدلكما تناقض الصورتين على شيء من طموح البارزاني لا كل طموحه.
*مسؤول الهيئة العاملة للمكتب السياسي
للحزب الديمقراطي الكردستاني.