يوسف جلبي.. فنان كوردي وهب صوته لقضايا شعبه ونوروز والمظلومين

التآخي : وكالات  

تمر اليوم الذكرى الثالثة والخمسون على استشهاد الفنان الكوردي الكبير يوسف جلبي، ذلك الصوت الذي ما زال يتردد في ذاكرة القرى، ويتهامس به الناس عند احتدام الوجع. لم يكن يوسف جلبي مجرد مغنٍ، بل كان وجهاً من وجوه الثورة الصامتة، رجلًا أشرقت أغانيه في زمن العتمة، واصطف مع المقهورين، ليصبح صوت الفلاحين، ونداء القرى المعزولة، وصوتًا جمع في حنجرته الشجن، والفخر، والتمرد، والوطن.

 

ولد في العام 1927، وعاش في قرية” جبلكراوي” القرية التي تنام في أحضان منطقة أومريان، وتستيقظ على أصوات بلابلها وكناريها. لكنّه لم يرضَ لنفسه أن يكون مجرّد عابر في هذا الوجود. نسج كلماته من لحم الحقيقة، ولحنها بنبض الأرض، وغنّاها كما يغني طائر مهاجر، لا يبحث عن تصفيق، بل عن نجاة. تألق في الحفلات، وارتجل، وكتب، وغنّى ما لا يُغنّى، فكانت أغنيته صرخة… وكانت صرخته جرمًا لا يُغتفر.

 

وفي عيد النوروز الأخير، في قرية “علي فرو”، كان يغني لأرضه كما لو أنه يعرف أن هذا الصوت سيكون الأخير. فاجأ المحتفلين الذين أحيوا العيد سراً، بعيداً عن أعين أجهزة الأمن، بحضوره المميز، ألهب الأحاسيس بأغنياته، وأيقظ في العيون دموعًا كانت نائمة. لم تحتمل السلطة هذا الحضور الطاغي، فأعدّت له الفخ، واستنفر رجالها، وبدأت النهاية تتسلل إليه من خلف الستار. أوقف، اعتُقل، عُذب، ثم اغتيل على يد رجال المكتب الثاني بقيادة المجرم  ذائع الصيت حكمت مينو، ليغدو ضحية الحرف والموقف، ودمه الذي سُفك كان ثمنًا لحريته الشخصية ولحرية شعب بأكمله.

 

لكن ما يؤلم أكثر من موته، هو أن تظل قضيته في طيّ النسيان، كأن الرجل الذي غنّى للحياة، مات مرتين؛ مرة على يد الجلاد، ومرة على يد الصمت. أيدي من حوله. أيدي من غنى لهم. إذ أنه حتى أولئك الذين رددوا أغانيه، وارتقوا بها إلى مسارح الشهرة، لم يحفظوا له جميل الصوت الأول. ظل ملفه طيّ الإهمال، لم تفتحه الحركة السياسية، كما يخيل إلي، من خلال متابعتي وحفري، ولا المؤسسات الثقافية التي نشأت فيما بعد، نتيجة ما مورس من تعتيم منظم على الجريمة، حتى بدا وكأن الفن الذي حمله فوق أكتافه، قد نكر حمله.

 

نجله، جلبي يوسف جلبي، أول من سمع ارتطام الجسد المكسور عند الفجر، عندما رمته سيارة رجال الأمن، حين عاد الأب ملفوفًا بأكاذيب الدولة، وقيل: “مات بجلطة قلبية”. لكن الابن، الأهل. الشهود والشارع، وكل من عرف يوسف، كانوا يعرفون الحقيقة، ويرددونها بينهم على استحياء، كمن يخاف أن تقتل الكلمة للمرة الثالثة، بيد أنه لم تتم متابعة ملف الجريمة النكراء، وهوما قلت في العام الماضي، في مثل هذا اليوم، عبر وسائل الإعلام، رغم معرفتي بالإجابة على نحو شبه كامل: صغر أطفاله. واقع الاستبداد. محاولة التضليل والتشويه بحق الفنان!؟

 

لقد كان يوسف يدخل بيوت المسيحيين واليهود والكرد والعرب كواحدٍ منهم جميعًا، محبوبًا كأنه من كل بيت، وصديقًا كأنه فردٌ من كل قبيلة. ومع ذلك، حين سقط، لم تُقم له الدنيا قائمة. ظل ملفه مغطىً بالغبار، لا مهرجان باسمه، لا جائزة تخلّد أغنياته، لا تمثال يشير إلى الرجل الذي كان أول شهيد فني لقامشلي.

 

ومع ذلك، لم تخن ذاكرته كلها. محمد رشاد بك المللي، صديقه، بقي وفيًّا حتى اللحظة الأخيرة. الشيخ إبراهيم عبد المحسن، المختار اليهودي، وآخرون  كثيرون من وجها وأعيان المنطقة وعوامها، ممن رافقوه، وظلوا يروون الحكاية رغم صمت السنين. وها هو ابنه جلبي، زميلي في التعليم، يفتح النافذة مجددًا، ويسرد، بشجاعة المؤرّخ، تفاصيل النهاية، وذكريات الطفل الذي شهد على انهيار أبيه فجراً، مؤكدا أن الجرائم الكبرى لاتموت بالتقادم!

 

أما الدافع للكتابة عن جلبي، فلم يكن فقط الندم، بل ذاك النبض الحيّ في ولدي كرم، الذي أحب الفن منذ نعومة أظافره، وراح يبحث عن أشرطة يوسف جلبي، ليغنيها ويهيم بها، حتى صار حفيد الشهيد صديقه الأقرب. طلب مني ذات يوم أن أكتب رواية عن يوسف، عن الجرح والفنّ والحلم المسروق. تأخرت الرواية، لكنني اليوم أكتب كأنني أخطّ اعتذارًا باسم جيل كامل لم يعرف كيف يردّ الجميل لصوت أنقذ الروح من الغياب.

 

لقد آن لنا أن نجمع أغاني يوسف جلبي، أن نوثقها، أن نطلق جائزة باسمه، أن نكرمه كما يليق بمن غنّى للحرية، ولم يساوم، ودفع حياته ثمنًا لصوته. يوسف جلبي لم يكن مطربًا فحسب، بل كان ظاهرة، والظواهر لا تموت.. إنها تعود، حين نستحقها.

قد يعجبك ايضا