د. رزكار حمه رحيم
القضاء تمكن من ابتداع وانشاء الاحكام القانونية في مجال القانون الدولي ، ان هذه المرحلة تميزت ، بمميز الاجتهاد ، ومع ذلك فأن القضاء لم يكتفي بهذا القدر او المساحة من العمل القانوني ، وانما اوجد لنفسه مجال اخر اتسم ايضاً بقدر عالٍ من الدقة . فبعد ان اوجد الاحكام القانونية ، اتجه مرة اخرى الى حالة الابداع ايضاً ولكن ضمن اطار النص القانوني وذلك بما يملكه من سلطة تقديرية منحت له من قبل المشرع ، بمعنى اخر انه بدأ يطور فيما وجد من هذه النصوص واحياناً اخرى يستخدم موضوع ( التطويع ) او انه يلجأ الى فكرة ( التلطيف ) في بعض المصطلحات الموجودة في النظام القانوني الاجنبي ، محاولاً ايجاد نوعاً من التنسيق والتكامل فيما بين النظم القانونية المختلفة ، او فيما بين الافكار والمصطلحات التي يتضمنها القانون الاجنبي الذي اشارت بأختصاصه قواعد الاسناد الوطنية ، وبدأ يلطف من الافكار في النظم الاجنبية او الغير معروفة في قانون القاضي ويجد لها مساحات او مناطق قانونية قابلة للتنفيذ في قانونه ، وهي تمثل محاولة جريئة من قبل القضاء ، اذ انه ولج مجالاً مهماً ، وهو اصعب من حالة الابتكار والخلق للحلول القانونية ، فمع وجود النص القانوني الا ان القاضي بدأ يخرج من هذا النطاق النصي مستلهماً بذلك مضمون النص ( روح النص ) بدلاً من الوقوف امام الوجود المادي للنص بغية اضفاء طابع الرحمة والانسانية على هذا النص ، يدفعه في ذلك الرغبة في ايجاد الحلول للمنازعات المعروضة امامه وعدم الركون الى السكون دون الحكم في الدعوى بحجج معينة ، اخذاً بالاعتبار احترام توقعات الاطراف المتنازعة ، وكذلك بغية الحفاظ على حالة التعايش السلمي فيما بين النظم القانونية المختلفة، وبدأ دوره هذا ينشط خصوصاً مع حالة النقص الكامن في صناعة وصياغة هذه القواعد من قبل المشرع ، ومحاولاً تجاوز حالة اللاتقنين في قواعد هذا القانون ، فقد حاول القضاء اللجوء الى مجموعة من الافكار القانونية الموجودة في النظم القانونية الاجنبية من اجل ايجاد تفسير لها داخل النظام القانوني الوطني مثل ( تكييف المسألة المجهولة في قانون القاضي ) وكذلك مسالة ( تطويع ) افكار اخرى لمصلحة القانون الوطني ، فقد لجأ القضاء مثلاً بتطويع مايسمى بـ ( مكتب المصالحة ) بغية الوصول الى حل للنزاع ، وقرر القضاء القيام قدر الامكان بالمهمة التي انيطت بمكتب المصالحة المعمول به في التشريع الاجنبي الذي اشارت بأختصاصه قواعد الاسناد الوطنية ، فقد قام القضاء هنا بتطويع مؤسسة قانونية قائمة في قانون اجنبي وغير معروفة في النظام القانوني للقاضي ، فألحق هذه المؤسسة الاجنبية بأحدى المؤسسات القائمة في قانون القاضي ، وهو في هذا الامر انما قام بتكييف علاقة غريبة عن الحالات الوضعية المعروفة في قانون القاضي ، لقد قام القاضي في هذه القضية بعملية اجتهادية تكميلية مستعيناً بثقافته القانونية التي ساعدتها بغية الوصول الى هذا التحليل وفهماً عميقاً لفلسفة وجود القانون الدولي الخاص.
وهذه الفكرة أي فكرة ( التطويع تندرج ضمن المنطقة القانونية ( الاجتهادية التكميلية ). ومن جانب اخر فقد تساءل القضاء هل يمكن اعتبار الزواج المتعدد وكذلك موضوع الاخذ بالارادة المنفردة في مسألة التطليق ، تصرفات قانونية صحيحة امام قاضي اجنبي ام لا .
وتبدو الاجابة بالنفي اذا ما اخذنا بنظر الاعتبار المنطق القانوني المجرد ، الا ان فلسفة وجود القانون الدولي الخاص وبما تعنيه من احداث نوع من المؤامة مابين النظم القانونية المختلفة ، اتجهت الى غير ذلك ، فلم يبقى القاضي منحسراً في اطار ثقافته القانونية الوطنية وانما حاول ان يوسع من مفهوم فكرتي الزواج والطلاق في قانونه ، فجعله يستوعب تعدد الروابط الزوجية ( تعدد الزوجات) ، او انحلال الرابطة الزوجية بالارادة المنفردة ، وقد اثر هذا التوجه القضائي على ارادة المشرع في مختلف الدول وعلى وجه الخصوص في بريطانيا ، مما دعاه الى ان يبادر بتدخل تشريعي ويضع نصاً يعرف بـ ( الزواج المتعدد ) فاعتبر هذا الزواج صحيحاً فيما لو تم خارج بريطانيا . كما رتب على هذا الزواج الاثار التي تترتب عليه في التشريع الاسلامي ، وهكذا يكون القضاء قد طوع فئة الزواج الواردة في القانون البريطاني وجعلها قادرة على استيعاب الروابط الزوجية المتعددة ، ففكرة التطويع اذن هي واحدة من الاجتهادات القضائية التكميلية في مجال القانون الدولي الخاص ، ولايمكن اغفال او غض النظر عنها بأي شكل من الاشكال وقد فرضت طبيعة قواعد القانون الدولي الخاص هذه التوجيهات .
وبجانب فكرة التطويع ادخل القضاء ايضاً افكار اخرى الغرض منها احداث نوعاً من التلطيف على جمود بعض النصوص القانونية فبعد ان اخذت غالبية القوانين بالمنع من الاخذ بالاحالة الى القانون الاجنبي والاقتصار فقط في هذه الحالة على الاخذ بالقواعد الموضوعية في القانون الاجنبي الذي اشارت بأختصاصه قواعد الاسناد الوطنية، كما هو معروف ، فقد رفض القضاء ومن ثم المشرع الاخذ بالاحالة مع مزيد من التوضيح ، والملاحظ هنا ان القضاء حاول التلطيف من هذا المنع ، فالمعروف ان وظيفة قاعدة التنازع تتلخص في اختيار القانون الذي يتكفل بحكم العلاقة ذات الطابع الدولي ، ويتم ذلك عن طريق الربط بين العلاقة وبين اكثر النظم القانونية اتصالاً بها ، ويتم ذلك بغية التوصل الى اختيار الأنسب لحكم العلاقة القانونية والذي يشتق من مركز الثقل في تلك العلاقة ، والمتصور هنا ان هذا المركز يتنوع بحسب طبيعة العلاقة القانونية ، ففي مسائل الاحوال الشخصية ، يكون مركز ثقل العلاقة القانونية هو جنسية اطراف العلاقة القانونية او محل اقامتهم ، وفي مسائل الاموال يكون الاثر بالنسبة لموقع المال ، وفي التصرفات القانونية يكون لمصدرها . مما يعني ان ضوابط الاسناد ليست متحررة كلياً من الاهداف التي تمليها مصالح الدولة الاساسية وظروفها الاقتصادية والاجتماعية والديموغرافية