أحمد بدرخان.. الكوردي الذي صنع مجد السينما المصرية وجعل من أم كلثوم ممثلة

 

 

سيد محمود*

قدمت كوردستان للعالم شخصيات كان لها تأثيرها في مجالات عدة، من أهمها السينما، ويعد المخرج الكبير أحمد بدرخان ذو الأصول الكوردية واحدًا من أكثر المؤثرين في عالم السينما وبخاصة المصرية، إذ ارتبط اسمه بكبار الفنانين وفي مقدمتهم سيدة الغناء العربي أم كلثوم. وقد تصدر اسم أحمد بدرخان قائمة المبدعين الذين أسهموا في تأسيس لغة سينمائية مصرية وعربية. لكنه لم يكن مجرد مخرج بارع فحسب؛ بل حمل في طياته إرثًا عائليًا وثقافيًا ضاربًا في عمق التاريخ، إذ ينحدر من عائلة بدرخان الكردية الشهيرة التي لعبت دورًا محوريًا في تاريخ كوردستان السياسي والثقافي.

 

تعود جذور أحمد بدرخان إلى الأمير بدرخان بك، حاكم إمارة بوتان في كوردستان الشمالية (جنوب شرق تركيا حاليًا)، الذي قاد ثورة ضد الدولة العثمانية عام 1847. مر بدرخان الأب وجد المخرج الشهير علي بدرخان بمحطات متعددة قبل استقراره النهائي في مصر؛ حيث انتقل أولًا مع العائلة إلى إسطنبول عقب نفي الأمير بدرخان، وهناك تلقى تعليمه المبكر في ظل رقابة الدولة العثمانية. لاحقًا، ومع تغير الظروف السياسية، انتقل إلى بيروت لفترة قصيرة، ثم توجه إلى القاهرة في أواخر القرن التاسع عشر، مستفيدًا من انفتاح الخديوي إسماعيل على استقبال المثقفين والأسر المهاجرة من المشرق العربي.

 

في القاهرة، اندمج محمد بدرخان في الحياة الثقافية والصحفية، وعمل في مجال الصحافة، وكان من أوائل الكرد الذين ساهموا في المشهد الفكري المصري، حيث كتب مقالات بالعربية والفرنسية، وشغل مواقع ثقافية بارزة، مما أتاح له أن ينقل إلى ابنه أحمد بدرخان إرثًا مزدوجًا: الاعتزاز بالهوية الكوردية والانفتاح على الثقافة العربية المصرية.

 

نشأ أحمد بدرخان في هذه البيئة المليئة بالثقافات المتعددة، متشبعًا بروح الانفتاح والتعدد، وهو ما انعكس لاحقًا في رؤيته الفنية. بعد دراسته في مصر، سافر إلى فرنسا حيث حصل على دبلوم الإخراج السينمائي من معهد السينما في باريس عام 1934، ثم عاد إلى القاهرة لينضم إلى استوديو مصر، حجر الأساس لصناعة السينما المصرية، ويبدأ مسيرته مساعدًا للمخرج محمد كريم، قبل أن يخرج أول أفلامه “يحيا الحب” عام 1938.

 

ارتبط اسم أحمد بدرخان بالسينما الغنائية، حيث أسهم في إطلاق نجومية كبار المطربين والمطربات مثل فريد الأطرش، ليلى مراد، عبد الحليم حافظ، من خلال أعمال حملت توقيعه مثل “ليلى بنت الريف” (1941)، “انتصار الشباب” (1941)، “موعد مع الحياة” (1953)، وغيرها.

 

ارتباطه بكوردستان

ورغم أن أحمد بدرخان لم يُعرف عنه زيارة كوردستان خلال حياته، فقد ظل يحمل ارتباطًا رمزيًا وروحيًا بجذوره، مستلهمًا من تاريخ عائلته الكفاحي واعتزازها بهويتها الكوردية، وهو إرث ظل يتردد في خلفية مسيرته الفنية، ليجعله أحد الوجوه الثقافية التي جسدت اللقاء بين الشرق والغرب، بين الهوية المحلية والانفتاح العالمي. وقد شكّل هذا البعد جزءًا من شخصيته الفنية؛ مخرجًا منحازًا إلى الأصالة، مفتونًا بقوة التعبير الفني، ومحافظًا على وعيه بتاريخ أجداده دون أن يحصر نفسه في حدود الجغرافيا.

 

ويعتبر “أحمد بدر خان” أول من نادى بإنشاء معهد للسينما، وذلك من خلال ما كتبه في الصحافة. هذا إضافة إلى أنه ألف أول كتاب عن السينما باللغة العربية عام 1936. ثم انتُخب “بدر خان” نقيبًا للسينمائيين ورئيسًا لاتحاد النقابات الفنية، وتولى منصب عميد المعهد العالي للسينما بعد استقالة “محمد كريم”، ليصبح بدرخان مشرفًا على معظم الهيئات السينمائية، بحكم ثقافته وخبرته. وكان من بينها مدير شؤون السينما عام 1959، ثم أصبح المستشار الفني لمؤسسة السينما، ورأس الوفود السينمائية في كثير من المهرجانات الدولية، واستمر يشغل منصبه هذا حتى يوم وفاته في 23 أغسطس 1969.

 

ويعود الفضل إلى تقلده المناصب، ومنها رئاسته لنقابة السينمائيين، وقدرته على حل مشاكلهم والبحث الدائم عن تطوير فن صناعة السينما، وإنشاء المعاهد. تولى مع رئاسته للنقابة اتحاد النقابات الفنية كأول رئيس لها بشعبها الثلاث: السينمائية، التمثيلية، والموسيقية.

 

معهد السينما قلعة تربي فيها الأجيال

بعد إنشاء معهد السينما الذي كان هو صاحب الفكرة وبالجهود الفردية عام 1945، ألقى محاضرة للطلبة افتتح بها المعهد حول علاقة “المخرج بالممثل”. قال فيها: “قبل أن أبدأ محاضرتي، دعوني الليلة أعبر عن سعادتي بإنشاء هذا المعهد الذي كان حلمًا جميلًا طالما داعب خيالي، وأمنية سعيدة وددت من صميم قلبي لو تحققت، حتى نخلق جيلًا جديدًا من الشباب المثقف يعاوننا في بناء صرح شاهق للأفلام المصرية على أساس قوي من العلم والفن الرفيع.”

 

وأكمل بدرخان محاضرته بعبارات تؤكد أنه كان مهتمًا بأن يكون نقيبًا للسينمائيين وأن يسهم في نهضتهم وإنشاء المعهد. فقال: “وأني بالاصالة عن نفسي وباسم نقابة السينمائيين المصريين، أشكر الزميل الأستاذ قاسم وجدي على اضطلاعه بهذه المهمة الشاقة، بل هذه الرسالة السامية التي في نجاحها إن شاء الله نهضة مباركة للأفلام المصرية.”

 

ويكمل بدرخان محاضرته فيصف حال السينمائيين قبل إنشاء نقابة لهم وما كانوا يعانونه، فيقول: “مضى زمن كان يحز في قلبي وفي قلب كل غيور على فن السينما أن يراها ميدانًا يصول فيها ويجول كل من بارت تجارته، أو فصل من وظيفته، أو خاب في دراسته، حتى تكونت نقابة السينمائيين المصريين، فحددت شروطًا لكل من يريد أن يحترف السينما، ثم أنشئ هذا المعهد وأخذ على عاتقه تعليم فن السينما المصرية بدم جديد من الشباب المثقف الملم بدقائق هذا الفن العارف بأصوله.”

 

 

أول فيلم مصري عراقي

يعد أحمد بدرخان مؤسسة سينمائية أثرت الحياة الفنية، فقد كان أول من أخرج فيلمًا عربيًا مشتركًا مع العراق وهو “القاهرة بغداد” 1945 كبداية للسينما العراقية.

 

ومن بين أشهر أفلامه التي تركت بصمة كبيرة في تاريخ السينما المصرية والعربية، يمكن أن نذكر فيلم “وداد” (1936)، الذي كان بمثابة انطلاقة حقيقية للسينما المصرية في حقبة الثلاثينات، حيث عُرض أول مرة في مصر وحظي بنجاح كبير. كان الفيلم من بطولة أم كلثوم، وفتح الباب أمام إنتاج أفلام غنائية جديدة في تلك الفترة، وهو النوع الذي كان له دور بارز في تاريخ السينما المصرية. أيضًا، في فيلم “فاطمة” (1947)، استطاع بدرخان أن يُقدم أم كلثوم في شخصية درامية تلائم تمامًا قوتها الصوتية وحضورها الطاغي. وعلى الرغم من أنه كان يُنظر في ذلك الوقت إلى السينما المصرية كنوع من الفنون الترفيهية البسيطة، إلا أن بدرخان ساهم في رفع مكانتها الفنية والثقافية من خلال مشاريعه السينمائية المتميزة.

 

سينما عربية مشتركة

من أبرز أعمال بدرخان أيضًا سعيه لإنشاء السينما العربية المشتركة بين مختلف الدول العربية، حيث عمل على تنمية التعاون بين السينمائيين المصريين ونظرائهم من دول أخرى مثل العراق وسوريا ولبنان. كان فيلم “القاهرة بغداد” (1945) مثالًا على هذه الجهود، حيث كان أول فيلم مشترك بين السينما المصرية والعراقية. وقد ساعدت هذه الأعمال المشتركة على تعزيز العلاقات بين الدول العربية من خلال الفنون السينمائية، وجعلت السينما أداة لتقوية الروابط الثقافية.

 

الإبن رائدا

ولم تتوقف مسيرة المخرج الكبير أحمد بدرخان بعد وفاته ، بل قاد نجله المخرج علي بدرخان مسيرة سينمائية مهمة ،لا زالت من أبرز المسيرات التي وضعته ضمن أهم السينمائيين ، وحظي باهتمام كبير ، قدم أفلاما لسعاد حسني التى تزوجها لفترة، وأحمد زكي، ومحمود عبد العزيز وعدد كبير من النجوم.

 

*مدير تحرير صحيفة الاهرام وناقد سينمائي مصري

قد يعجبك ايضا