التزام الدول بتنفيذ اتفاقيات الحماية

د. رزكار حمه رحيم

لم تنص اتفاقيات حقوق الانسان من حيث المبدأ على طريقة لإدماج نصوصها مع القوانين الداخلية وكيفية استقبالها لها, إذا كان تلقائياً, أو يشترط إصدار تشريعات داخلية يتم بها تطبيق الالتزامات الدولية داخليا، والسؤال هو, هل ان التزام الدول باتفاقيات الحماية هو التزام فوري او وقتي .
في المناقشة حول عهدي حقوق الانسان, اشار ممثلي العديد من الدول الى ان العهدان يفرضان على دولهم بعض الالتزامات التي لا قبل لهم بها, مثل المساواة التامة بين الرجل والمرأة. ولأجل ذلك صيغ العهدان بالشكل الذي يضمن موافقة اغلبية الدول عليه, إذ جاء العهدان بالحد الادنى من الحقوق التي لا مناص للدول من قبولها والا أُتهمت بانها تقف على الضد من حقوق الانسان.
ان مدى التزام الدول بتنفيذ اتفاقيات الحماية, يُلجئنا بالضرورة الى البحث في الاساس الملزم لقواعد الحماية وفيما يتعلق بالموضوع هناك اتجاهان:

الاول: الاتجاه التقليدي, والذي يرى الاساس الملزم يكمن في ارادة الدول, وفي هذا الاتجاه مذهبان الاول المذهب الارادي, الذي يرى ان ارادة الدول وحدها هي من يضفي القوة الملزمة على القانون (المعاهدة ) فالدول بإرادتها تلزم نفسها بالمعاهدات, وبدورهم اصحاب هذا المذهب انقسموا الى قسمين الاول, يرى ان الاساس الملزم للقواعد الدولية هو إرادة الدولة ذاتها دون ان تعلوها ارادة اخرى, وهذا يعني ان الدولة هي من يقيد ارادتها بنفسها, ولا يمكن لأي دولة اخرى ان تلزم الدولة باي التزام مالم تلزم هي نفسها به, هذا الراي سمي بنظرية (التحديد الذاتي او التقييد الذاتي), و الثاني من اتباع المذهب الارادي فهو وان اتفق مع اصحاب الراي الاول في ان اساس الالتزام بقواعد القانون الدولي هي ارادة الدول نفسها, ولكن ليست لوحدها بل بلحاظ تجمع ارادات الدول التي باندماجها مع بعضها تكّون قواعد دولية ملزمة, وقد يكون اتحاد الارادات هذا ضمنيا بالعرف الجاري العمل به, أو صريحاً ممثلاً بالاتفاقيات, وبناء عليه سميت هذه النظرية نظرية الارادة المشتركة, أما المذهب الثاني, في الاتجاه التقليدي, فهو المذهب الموضوعي الذي ينفي اصحابه الارادة كأساس لإلزام القواعد القانونية الدولية, ويرون ان قوة الالزام هذه تأتي من عناصر خارجية, الا انهم اختلفوا حول هذه العناصر إلى رأيين, ايضاً الاول اخذ بنظرية سميت (النظرية المجردة للقانون), الذي ينفي الشخصية الدولية للدولة, ويرى ان اساس صحة كل قاعدة قانونية يرجع الى استنادها الى قاعدة قانونية تعلوها في بناء هرمي للقواعد القانونية, وصولاً الى قاعدة عامة مجردة تعلو كل القواعد القانونية الاخرى, ومنها تستمد هذه الاخيرة شرعيتها, وهذه القاعدة العليا هي(الوفاء بالعهد), اما النظرية الثانية فهي النظرية الاجتماعية, وتقوم هذه النظرية على فرضية مغزاها ان القانون نتاج علاقات اجتماعية, يسميه انصار هذه النظرية (الحدث الاجتماعي), مفادها ان وجود الجماعات يحتم وجود علاقات تربطها وهذه العلاقات تتطلب بالضرورة وجود قواعد قانونية لتنظيم هذه العلاقات .

الثاني: وهو الفقه المعاصر, يرى الفقه المعاصر ان اساس الالزام للقواعد القانونية الدولية بما فيها قواعد الحماية الدولية لحقوق الانسان, لا يمكن رده الى معيار من بين المعايير السابقة, بل هناك معيار واحد او اساس ملزم يتكون من ثلاث اركان:

-مصدر القاعدة القانونية شكلاً (العرف أو معاهدة او مبدأ قانوني),الذي يمثل في نفس الوقت اساس قوتها الملزمة
-ارادة اشخاص القانون, التي لها الدور الاكبر في الفاعلية العملية للقاعدة القانونية .

-هناك دائما قواعد قانونية ملزمة, سواء وافق عليها اشخاص القانون الدولي او لم يوافقوا, باعتبارها اساس المجتمع الدولي (كتحريم العدوان والوفاء بالعهد…الخ)
ويذهب البعض من انصار هذا الاتجاه الى ان القوة الملزمة للقواعد القانونية الدولية تنبع من الحقائق المادية المتعلقة بحياة الافراد, وضرورة التعاون بين الجماعات الدولية, الذي لا يكون ذا جدوى الا إذا نُظم بقواعد قانونية تراعيها الدول في تعاملها مع بعضها البعض.

تنص المادة الثانية من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية على:(( التزام الدول الاطراف بهذا الميثاق بالنسبة لجميع الافراد الموجودين على اراضيها او التابعين لها, باحترام وضمانة الحقوق المعترف بها في هذا الميثاق)).

وفيما يتعلق بالحقوق السياسية والمدنية, لا يتطلب إعمالها أكثر من امتناع الدولة عن تقييدها, وهذا ما برز في المادة الثانية الفقرة الاولى اعلاه, وبهذا الاعتبار تكون التزامات الدول تجاه تفعيل هذه الحقوق التزاماً فورياً, وبما أن هذه الحواجز هي من وضع السلطة ذاتها فواجبها هو التوقف او عدم وضع هذه المعوقات, الا أن الفقرة الثانية – المتعلقة بمعالجة انتهاك الحقوق- والثالثة, تُشعر بضرورة قيام الدولة بعمل او التزامات ايجابية, ولو بصورة محدودة – فيما يتعلق بالفقرة الثانية – لضمان حماية هذه الحقوق . وزُبدةُ المخّض, ان العهد الدولي يوجب على الدول اتخاذ الاجراءات الكفيلة باحترام حقوق الافراد, ويتحقق ذلك بجملة اجراءات ايجابية وسلبية , وهذا ما تختلف فيه هذه الفئة من الحقوق عن الفئة الثانية, وهي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية, والتي لا يمكن الحديث عنها بعيداً عن مساهمة الدولة في تهيئة الاسباب اللازمة للتمتع بها.

وعلى أي حال فان القانون الدولي لحقوق الانسان, لا يلزم الدول الاطراف في اتفاقيات الحماية بتطبيق هذه الاتفاقيات مباشرةً ذلك, لان الغرض من هذه الاتفاقيات ليس مجرد تنفيذ الدول لالتزامات معينة على الصعيد الدولي, وإلا لكان من الهين على الدول الالتفاف على المبادئ التي تقرها تلك الاتفاقيات بإجراءات شكلية, – وهو ما متحقق فعلاً- مثل آليات رفع التقارير, التي تظهر فيها الدول التزامها التام بالاتفاقيات المنظمة لتلك التقارير وتعكس صورة مشرقة لحقوق الانسان داخل اقاليمها, مع ان هذه التقارير قد يصدر من اكثر النظم شمولية, والتي لا يمكن التكلم فيها عن وجود حقوق للمواطنين, بل قد يكون انضمام هذه الدول لهذه الاتفاقيات يأتي لأغراض دولية بحتة, دون ان يكون لذلك علاقة بأصل ممارسة الحقوق داخل الدولة, كأن يكون الغرض من الانضمام تجنب النقد الدولي, او الادانة الدولية, او اظهار الدولة في المحافل الدولية بأنها لا تقف على الضد من ممارسة هذه الحقوق, لكن المراد من هذه الاتفاقيات والمعاهدات هو حماية حقوق الافراد في مواجهة الدولة على ارض الواقع, وبالشكل الذي يجعل الافراد في منأى من ضغط السلطة وتعسفها في ممارستها لسلطاتها تجاههم, بإنشاء آليات تعكس صورة واضحة عما يجري على الأرض.

قد يعجبك ايضا