د.رسول عدنان
هذه القصيدة لحسين مردان من ديوانه الإرجوحة هادئة الحبال الصادرعام 1958، كتبها عام 1956و هذه القصيدة واحدة من أقدم قصائد النثر العراقية و العربية، كُتبتْ على شكل مقال وهو الشكل الذي كتب به ألويزيوس برتران أوّل ديوان في قصيدة النثر و اسمه جاسبار الليل، في هذه القصيدة تفنيد واضح و جلي للبيان الشوفيني لجماعة مجلة شعر و على رأسهم أدونيس الذين أعلنوا عن إنطلاق قصيدة النثرعام 1960 و لتأكد على الريادة العراقية لقصيدة النثر؛
سأقوم بتقطيع هذه القصيدة الى خمسة مقاطع لتسهيل عملية تفكيكها و الدخول الى عوالهما؛
جو للنص
تستمدّ قصيدة النثر شرعيتها و وجودها من اللآغرضيّة او المجانيّة في القول اي من اللاقصدية، و قد دارت عوالم هذا النص في شعريّة حركيّة متلاحقة، حيث يقفز الشاعر بين الفقرات دونما تخطيط بل بعفويّة تامة وتلك هي المجانيّة وكأنّه يصوّر مشاهد يوميّة بشكل عبثي مدروس، إنّه يؤرّخ ما يفاجئه ويُدهشُه ويحيّره ويقلقه، و سرعان ما ينتقل من صورة مكثفّة الى صورة أكثر تكثيف، ليَدخلَ في عوامل غرائبيّة تكون اللغةُ فرشاتَه في رسم لوحته، إنّه بوحٌ غيرُ ممنهج، غيرُ مدروس، لا غرضي، ترجمةٌ لإعتمالاتٍ نفسيّةٍ يختلطُ فيه الواقعي و اليومي العابر؛ و الملفت إنّ الشاعرَ كتبَ نصّه على شكل مقال اي كتلة و هي الطريقة الأصلية في نسخة قصيدة النثر الفرنسية منذ برتران و بدون الإطلاع على ديوانه جاسبار الليل، و هذا يؤكد السبق في كتابة قصيدة النثر العربية لحسين مردان، في هذا النص أمتزج الواقعي و الخيالي حيث قادا الى السحري في وصف عوالم نصّه،، و الملاحظ في القصيدة هو التنقيط و الفواصل و قصر الجمل وهي ذات التقنية التي استخدامها مخترع قصيدة النثر ألويسوس برتران في ديوانه جاسبار الليل.
دلالة العنوان
عبر حوار دراميّ يقود الى التضارب بين الواقعي والخيالي وضياع النفس البشريّة يكوّن الشاعر عوالم قصيدته و التي تبدأ بتوظيف واقعي عبرنسيم و وردة و قمر شاحب، و رجل بصوته الثخين، ثم ينعطف الى حبيبة متخّلة حيث عينها قريبة من قلبه، ليتنقل الى الخيالي فجأة عبر حدثت الكارثة و انهارت الصخور في اعماق الجبل، ليصف المشاهد التالية بشكل واقعي استلّه من الخيالي، و الذي يقود الى اللآغرضية في الوصف عبر المقطع ربما لانّ نفختك للريشة كانت أقوى، ثم يعود في المقطع الثالث الى الخيالي من خلال انظر الى الروؤس العائمة في الفضاء و يستمر في وصف خيالي باهر الى ركبت البساط الى استنبول، ثم يعود الى الواقعي من خلال فهناك و في شرفة من الطابوق الأشهب و يستمر حتى نهاية المقطع، حتى تجلس حبيبته الى جانبه لتجمّدَ كلَّ شئٍ كان حار، و في المقطع الأخير يمزجُ به الخيالي و الواقعي من خلال تعاطي لا غرضي في صياغة أبيات قصيدته عبر مونولوج درامي تنقل به الشاعر في أغراض شعرية هي لبُّ و أصل هذا النوع من الشعر، و هو بذلك أجتاز كلَّ من عاصره و من جاء بعده من شعراء ليقدّم لنا النموذج الأصلي لقصيدة النثر بلغة عربية.
المقطع الأول
(كان النسيم البارد يلتّف داخل الوردة، و القمرُ الشاحب يتدلّى فوق الحائط، كرة بلّور اصفر،و بعيدا خلف حاجز من الخشب القهوائي، انتصب الرجل يتحدث عن قضية مهمة. و كان صوته الثخين يقفز فوق السلالم و يسقط حول اذني حفنة من الحروف الطائرة .. و لكني لم استوعب كلمة واحدة.. قلت ذلك بخفوت و برقة. و خيّل أليّ ان الصدى سيخدش وجنتها المستديرة! و لم تظهرعلى عينها القريبة من قلبي اية استجابة سعيدة. غير اني شاهدت فوق شفتيها السمينتين ظل ضحكة صغيرة اشبه بعصفور اخضر يلوب داخل قفص من اللؤلؤ.. )
يبدأ الشاعر قصيدته بوصف رومانسي مهيّاً إيّاها الى تشظيّات دلاليّة أخرى عبر الصور المتلاحقة، فهنالك نسيم مع وردة و قمر قريب الى حائط، و ايضا هنالك رجل بصوت ثخين فوق السلالم، في هذا المقطع مزاوجة بين الرومانسي والواقعي، و بإلتفاته أخّاذة يصف وصول صوته بالحروف الطائرة، كناية عن كلامه الصاخب، والذي لم يكن الشاعر لينتبه اليه لأنشغاله بصورة أخرى تلك التي رسمها لإمرأة كان يخشى عليها من صدى هذه الحروف الطائرة الصاخبة، و التي تكفّل وقعها ان يجعلها تطلق ضحكة صغيرة، ثم يعمد الى تشبيه رومانسي رائع واصفا إيّاها بعصفور يلوب داخل قفص، حيث تمكن الشاعر من إعداد الجوّ العام لمسرح قصيدته بعناية فائقة من خلال تفاصيل صغيرة و دقيقة جدّاً وزّعها بإقتضاب دون حشو على شخوص هذا المقطع حالة المكان، و الحديث الصاخب للرجل الذي يقف على السلّم، و المرأة ذات الضحكة الصغيرة،
المقطع الثاني
(و هنا حدثت الكارثة- و انهارت الصخور في اعماق الجبل، و اختلط الرمل بماء الينابيع و تلطّخت الزهور بالوحل .. و تلفت حولي كأسد أصيب بطلقة طائشة .. آه .. أني اقتل دائما من قبل المرأة .. و رجعت الى جحيمي و أنا ارتعد من الغضب- و استمر الحوار وسط النار .. انه جواب بريء- كلا – ان فيه نبرة جافة، قيرة صناعية ..
ربما لان نفختك للريشة كانت أقوى مما تريد ليكن فهي ليست سوى حبة عنب اشقر، و غدا ستنفجر على اصبع غبي- و لن تجد مثل هذا الجبين ابدا – – و انكمش وجودي كله- لتبتسم فقد ماع الفص و لم يبق في السلة اي اثر للحرير.. )
فجأة ينعطف الشاعر الى رسم صور متلاحقة يهيّأ لها فضاء القصيدة بما يشدّ قارئه من خلال مفردة- الكارثة- فهنالك صخور تنهار تسببتْ بإختلاط الرمل بالماء و الزهور بالوحل، و كأنّ ما أحدثه وجود المرأة أمام الشاعر هو هزّة وصلتْ الى مستوى طلقة طائشة، فالمعروف عن الشاعر شبقُه الجنسي و تعطشُه لجسد المرأة، لذلك قاده هذا الشبق و لهاثه وراء الجنس الى إصدار ديوان شعري قاده الى السجن هو ديوان قصائد عارية، و هذا ما يبرر وصفه لهذه اللحظة بطلقة طائشة او أني أقتل دائما من قبل المرأة، فهو يصف حواره معها بوسط النار رغم انّ جوابها كان بريئاً، ثم يصف تنهداتَه التي أطلقها من خلال نفخة ريشة، و بعد ان استدرك نفسه وجد أنّها ليست سوى حبّة عنب أشقر مستدركا وصفه هذا ب (ستنفجر على إصبع غبي)،
المقطع الثالث
(و رحت انظر الى الروؤس العائمة في الفضاء- لماذا جئت؟ انّي رجل حُكم عليه بالوحدة- و لقد سبق و ان شُنِقتْ اشواقي في غابة الصبّار- لا .. يجب ان لا اخرج من صندوقي الخاص و انتحب الشعر في دمي .. وما الفرق ! انها من نفس الطين الملون .. و الجمال ؟ انها لجميلة هذه الفرخة الرائعة- مرمر و نقطة نور – – و غصن في درب آخر- و ركبت البساط الى استنبول-)
يدخل الشاعر في هذا المقطع بحوار خيالي حيث الروؤس العائمة في الفضاء حيث يدخل عبر هذا المقطع بالآغرضية و المجانية من خلال عدّة مقاطع، شنقتْ اشواقي في غابة الصبّار، لا أخرج من صندوقي الخاص، و انتحب الشعر في دمي، من نفس الطين الملّون، مرمر و نقطة نور حتى يختم المقطع ب -ركبت البساط الى استنبول- الملاحظ انّ الشاعر وضع كلَّ هذه الصور المتلاحقة من خلال شحن مجاني و استدارك لا غرضي وضعها كجملة اعتراضية بين خطّين ليرسل رسالة الى القارئ إنّها بعض هذيانات نفسية و إعتمالات روحية أختلجت بالشاعر أثناء رؤيته للمرأة و هو المعروف كما أسلفنا بشبقه للجنس و النساء،
المقطع الرابع
(فهناك و في شرفة من الطابوق الأشهب ينتظرني الوجه الآخر-! واه هنا افرم احشائي قرب خصلات شعر غلامي- و ابني عمارة من الحسرات الصامتة- و هي ابدا تلعب بين اهدابي و تسخر من الأعجاب في حدقتي .. و نهضت لتقوم بنزهة في الحديقة- حديقة في حديقة!- وعادت لتجلس في مكان لا يرى .. و عندما جاءت الى جانبي كان كل شئ حار قد تجمد الى الأبد –)
في هذا المقطع يعود الشاعر الى الوصف الواقعي لمسرح القصيدة، حيث وجود شرفة من الطابوق الأشهب تقف المرأة بها بينما في الطرف الآخر يقف الشاعر متحسرا متمنيّاً إيّاها واصفا هذه الحسرات بعمارة من الحسرات و هي تتغّنج أمامه بسخرية، ثم يصوّر الشاعر بشكل واقعي ساحر كل حركاتها و هي تقوم بنزهة داخل الحديقة و تنزوي في مكان لا يُرى ثمّ تقترب منه و من حرارة جسده التي ارتفعت نتيجة لشبقه لكن ما أن اقتربت منه فإذا بكلِّ شئ حار قد تجمّد و هذه كناية عن السعادة التي شعر بها أثناء اقترابِها منه
المقطع الخامس
(و في تلك اللحظة الحزينة – لحظة موتي – ظهرت عزيزتي الحقيقية، مثل انبوب حليب في زجاجة سمراء- فنهضت الموسيقى في أعماقي، و اختفت كل صور الجمال الاخرى – فصحت يالدوائر العسل – و اعتذرت لصورتها في قلبي- و تمنيت ان امزق حنجرتي و استل الاف الاغنيات التي احتفظ بها من أجل عينيها- و تعقبت نغمات خطواتها الرشيقة- فيالفرحي العظيم …)
فجأة – و بعد أن أستدرجنا – يعود الى واقع حاله و هي اللحظة الحزينة ليصف معشوقته مثل انبوب حليب في زجاج سمراء و يبدو لي إنّها كناية عن لونها الأسمر، عندها تعلو الموسيقى و هي كناية عن السعادة التي شعر بها و من خلال مقاطع خيالية يصف لنا الشاعر شعوره المفعم برؤيتها بعدما وجد انّها تختلف عن تلك الصورة التي كان قد رسمها لمعشوقته لذلك استخدم الافعال أعتذرت، تمنيت،امزّق، استلّ، تعقبّت، هذا الكم من أستعمال الأفعال له دلالة على وقع ما حدث فهو قد اصطدم بصورتين الأولى كان قد رسمها لمعشقوته بقلبه و خياله و الأخرى التي رآها و هي سمراء، لذلك ألتجأ الى جملة من الأفعال ليصف لنا حالته النفسية بين الفرح و المفاجأة و هو يتعقّبُ خطواتها الرشيقة ليختم هذا المشهد بوصف فرحه العظيم بها،
الخصائص الفنية للقصيدة:
جاءت هذه القصيدة كمحاولة لسبر أغوارالنفس البشرية في مواجهة القدر، عبر مونولج شبه درامي صاغه الشاعر عبر حوار شعري امتزج به الخيالي و الواقعي من خلال مفهوم قصيدة النثر الأصل و اقصد النموذج الفرنسي سواءا عند برتران في جاسبار الليل او مقلديه مثل بودلير في سأم باريس او رامبو في اشراقاته او مالارميه في رمية نرد، الذين قلّدوا برتران و أتّبعوا اسلوبه في قصيدة النثر، لكن الملفت أنّ حسين مردان لم يقرأ برتران و عندما شرع في كتابة ديوانه هذا عام 1956 و طبع عام 1958 لم يكن
برتران قد ترجم ولا ديوان سأم باريس او اشراقات رامبو، لكنني نرى مردان قد صاغ قصيدته هذه و بقية قصائد هذا الديوان بالفطرة فجاءت قصيدة نثر خالصة و بذات الخصائص التي أعتمدها الشعر الفرنسي، و بذلك يكون مردان الرائد الحقيقي لقصيدة النثر العراقية و العربية و اوّل من صاغها على الشكل الأصلي دون ان يطلع عليه،
الدلالتان النصيّتان في القصيدة :
من خلال عتبة النص التي تحيلنا الى دلالتين ظاهرة و مضمرة فالعنوان يوحي بشعرية حركيّة او دلالة ظاهرة و هي طائر الرُخّ و الحليب الأسود و حتّى نعرف من هو طائر الرخ و من هو او هي الحليب الأسود؟ عليها ان نكشف الدلالتين النصيتين الحركتين في عتبة النص و انعكاس النص و احداثه على كل منهما من خلال تحليل العلاقة بينهما،
الدلالة الأولى وهي الظاهرة:
طائر الرُخّ، من هو و ما هو و ما دلالته في النص؟ هو طائر اسطوري ورد أسمه في كتاب ألف ليلة و ليلة بإسم طائر العنقاء و هو طائر نبيل يولد من الرماد و قد ورد في أساطير عدة حضارات ايضا و هو ذاته طائر الفينيق لدى الأغريق و الأوربيين، لكن ما هي دلالته في هذا النص؟ هل هو رمز للشاعر الذي وظّفه من باب التجريد؟ ليرمز الى كل الظروف السيئة التي أحاطت بالشاعر من تشرّد و ضياع و معيشة ضنكة و حياة بوهمية و الذي كان يعيش قرب المزابل و الرماد و يولد شاعرا ينهض بالشعرية العراقية تماما مثل طائر الرخّ او العنقاء الذي لا يموت بل يبقى خالدا يتوالد من اللآشئ من الرماد، و هل الحليب الأسود المقصود به هي تلك المعشوقة السمراء التي وصفها في المقطع الخامس و الذي مهّد الى تلك الظروف التي يولد بها طائر الرخّ و هي من النار و الرماد و هذه دلالة أخرى على إحالته في المقطع الثاني (و رجعت الى جحيمي ) و (و استمر الحوار وسط النار) فهل المقصود بالجحيم هنا هي الحياة التي يعيشها الشاعر؟ ام انّه مكان ولادة طائر الرُخّ، و ما تفسر لنا هذا الإحالة هي الجملة التالية بأنّ هذا الحوار دار وسط النار و هذه هي الهيّأة التي يظهر بها هذا الطائر الأسطوري
الدلالة الثانية المضمرة : إنّ اسطورة طائر الرُخّ ( العنقاء ) التي وردت في كتاب ألف ليلة و ليلة والتي كانت بغداد مسرحا لهذا الكتاب الرائع و بغداد أيضا هي مدينة الشاعر والتي يعيش بها حياة بوهيمية متشرّدا و في هذا الكتاب الرائع أيضا تلك القصة الجميلة عن البساط السحري الذي ينقل علاء الدين بطل إحدى قصصه، وقد قام الشاعر بتوظيف هذه الثيمة البساط السحري في القصيدة من خلال قوله ( و ركبت البساط الى استنبول ) في المقطع الثالث، و التي توحي للقارئ أنّ ما جاء في هذا النص قد يكون نسجا على طريقة ألف ليلة و ليلة ليصحو البطل و يعتلي بساطه عائدا، و قد يكون هذا النص جاء جزء منه واقعيا من خلال لقاء الشاعر بفتاة عبر شرفة ما ثُمّ أكمل النصَّ من خلال توظيف تراث ألف ليلة و ليلة و هو أسلوب يلجأ اليه الشعراء دائما، اي استلهام التراث، و سوف أترك النهاية مفتوحة لأشرك القارئ في استنتاج ما يراه و يفهمه هو من خلال هذا النص و من خلال هذه الدراسة.