محمد سليم المزوري
تتفق الدول الأطراف في المعاهدة على تحديد اللغة أو اللغات التي تحرر بها المعاهدة، واختيار اللغة التي تحرر بها المعاهدة لا يثير أشكالا في حالة إبرام المعاهدة بين دولتين أو أكثر تتكلم نفس اللغة، إذ يتم في هذه الحالة تحرير المعاهدة بلغة واحدة هي اللغة الرسمية المشتركة لجميع الأطراف (كاللغة العربية بالنسبة للأقطار العربية) والصعوبة تظهر في حالة إبرام معاهدة بين دول تتكلم لغات مختلفة، ومن المتصور في هذه الحالة أن تلجأ الدول المتعاقدة إلى اختيار أحد الحلول الآتية، وكلها حلول مألوفة في العلاقات الدولية.
تحرير المعاهدة بلغة واحدة ذات انتشار دولي سواء كانت لغة أحد الأطراف أو لم تكن وقد كانت اللغة اللاتينية هي اللغة المستعملة عادة لتحرير المعاهدات بين سائر الدول الأوربية حتى أواخر القرن السابع عشر، على أنه لما تفوقت أسبانيا على غيرها من الدول في أواخر القرن الخامس عشر كثر استعمال اللغة الأسبانية وفي خلال فترة قصيرة، ثم شاع التحرير باللغة الفرنسية من أيام لويس الرابع عشر وظلت اللغة الدبلوماسية حتى أوائل القرن العشرين، ولكن استعمال اللغة الفرنسية لم يكن بناءا على قاعدة من قواعد القانون الدولي، فقد نصت المادة (120) من القرار العام لمؤتمر فينا سنة 1815 على أن استعمال اللغة الفرنسية في كل وثائق المؤتمر لا يعتبر سابقة بالنسبة للمستقبل، وأن لكل دولة الحق في أن تستخدم في اتفاقاتها اللغة الدبلوماسية التي تختارها، ثم بدأت اللغة الانكليزية تنافس اللغة الفرنسية في القرن العشرين ففي مؤتمر صلح باريس 1919 استخدام اللغة الانكليزية على قدم المساواة مع اللغة الفرنسية في كافة وثائق المؤتمر.
تحرير المعاهدات بلغتين أو أكثر من الاتفاق على انه في حال تضارب التفسيرات الناجم عن اختلاف اللغات المستعملة ترجح أحدى هذه اللغات وهذا ما تم الاتفاق عليه في شأن معاهدات الصلح بفرساي 1919-1920 إذ رجحت اللغة الفرنسية على غيرها من اللغات الأخرى عند الاختلاف على التفسير.
تحرير المعاهدة بأكثر من لغة دون النص على أعطاء الأفضلية للنص المحرر بإحدى هذه اللغات أو مع النص صراحة على المساواة بين النصوص المحررة بهذه اللغات كلها كميثاق الأمم المتحدة الذي حرر بخمسة لغات واعتبرت كلها لغات رسمية للميثاق، ومن شأن أتباع هذه الطريقة أثارة الصعوبات عند تفسير المعاهدة، إذ من المتصور أن تختلف التفسيرات باختلاف اللغات المحرر بها نص المعاهدة.
والملاحظ أن هذه الطريقة الأخيرة من أكثر الطرق انتشارا في الوقت الحاضر، بالرغم من عيوبها الفنية وما تثيره من صعوبات كلما كثر عدد أطراف المعاهدة، ويرجع انتشار هذه الطريقة المنتقدة إلى اعتبارات سياسية بحتة تنحصر في اعتزاز كل دولة بلغتها الوطنية ونفورها من الاعتراف بالأفضلية للغة دولة أخرى ولعل ذلك يعد انعكاسا لتمسك الدول بفكرة السيادة واعتبار أن استعمال لغتها في المعاهدة التي تدخل طرفا فيها يعد مظهرا من مظاهر سيادتها. ومن هنا يثور الأشكال في تحديد المعنى الذي يتعين الأخذ به في التفسير، والواقع أن أراء الفقهاء قد اختلف في هذا الصدد، فقد ذهب (أو بنهايم) إلى القول بإلزام كل طرف بالمعنى الذي تفيد لغته على أساس أن كل دولة لا يمكن أن يكون لها فائدة من المعنى الذي تفيده لغة الطرف الأخر، في حين تذهب بعض الفقهاء منهم (فردروس) و(هيردي) إلى الاعتماد ما يسمى بقاعدة (النص الأصلي) أو (الصيغة الأولى) ي النص الذي وضع في البداية كمشروع للمعاهدة وحررت به الأول مرة، وينطلق هذا الاتجاه الفقهي في تبرير موقفه من إن نص المعاهدة الدولية من غير الممكن تقريبا وضعه مباشرة بعدة لغات، ففي البداية يوضع بلغة واحدة، ويعد بذلك هو النص الأصلي والأساسي ومنه فيما بعد يترجم إلى اللغات الأخرى.