خارطة طريق لاستراتيجية استقلال الأمن الاقتصادي لأقليم كوردستان

“التفكير بحرية أمر عظيم، لكن التفكير الصحيح أعظم”
حكمة سويدية

د. توفيق رفيق التونچي

الأمن الاقتصادي يؤمن استقلالية الاقتصاد في الكيانات السياسية وفي عالم اليوم المسماة عالم العولمة بعيدة المنال وذلك لأننا نعيش في عالم متكامل نحتاج إلى الانفتاح والتطور إلى الأمام مع الآخرين. أما الانعزال فسيؤدي حتما إلى التقوقع الفكري ومن ثم زوال الأنظمة والكيانات واندثارها. في مملكة اليابان حينما قرروا انشاء حديقة عامة للناس يتركون الأرض المخصصة لإنشاء الحديقة دون تخطيط مسبق للأرصفة التي يمشي عليها العامة في تجوالهم. النتيجة تكون ظهور طرق يمشي عليها المارة دون أي تدخل من مخططي الحديقة العامة وهذه العشوائية في الاختيار طرق السير يتم رصفها لاحقا ولا يختار الناس في تجوالهم في الحديقة الا تلك الطرق التي اختاروها لنفسهم دون استخدام طرق جانبية.

البشرية تحتاج بالدرجة الأولى إلى الهواء كي تستمر في الحياة ثم يليه الماء والغذاء وعدا ذلك كله من الكماليات.
الأنظمة الاتحادية تخلوا من المركز فلا وجود لسلطة مركزية إلا عن طريق مواد الدستور الذي ينظم شكل الدولة وتوزيع السلطات وغالبا ما تكون بعض السلطات منحصرة بالحكومة الاتحادية كالدفاع مثلا ويبقى الأقاليم تتمتع بقدر كافي من الاستقلالية مما يؤهلها ان تنمو وتتطور منً جميع النواحي.

الاستقلالية الاقتصادية في الكيان السياسي تبدأ في أشياء بسيطة جدا وتبدا بالمأكل والمشرب حيث الاعتماد على المنتج المحلي أساس استمرارية الحياة اما التقنية فهي ليست ضرورية لاستمرارها. حين سال المهاتما غاندي عن سبب جلوسه وراء آلة الدولاب النول وحياكة ملابسه قال:
من هنا تبدّا الحرية والاستقلال.
أي حين نبدأ نعتمد على أنفسنا في إنتاج حتى ملبسنا ومشربنا ولا نستوردها. وهنا من الأسس والحاجة الحياتية ومن المعلوم انه كان قد درس في بريطانيا وحتى قمصانه كانت تجلب له من هناك.

إقليم كوردستان نموذج لاقتصاد ينمو باطراد وفيه الكثير من الثروات وتجدر الإشارة من الأفضل ان ندرس منطقة جغرافية صغيرة وتطبيق النموذج على الإقليم بأكمله وهي منطقة “هورامان ” وهي منطقة جبلية تمتد بين كوردستان ايران الشرقية ممتدا الى داخل الإقليم في محافظة حلبجة، وتقع فيها قرى بياره وتويله وخورمال وأحمد آوه والتي تشتهر بطابع بيوتها المعماري الجبلي على شاكلة الحدائق المعلقة، حيث يكون سطح المنزل سقفا للمنزل الذي يقع فوقه مباشرة. حيث كانت ولا تزال نموذجا مثاليا في الاعتماد على النفس يحتذي بها في استقلاليتها من جميع النواحي فهي منطقة مستقلة ثقافيا بلهجتيها الجميلة وبتراثها البديع وبيئتها الجبلية الجميلة وتنتج المنطقة كل حاجيات مواطنيها من ملبس ومأكل وحتى ينتجوا أحذيتهم بأنفسهم بالإضافة إلى الصناعات اليدوية التراثية والحرف القديمة.
كوردستان وبعد ان تنهي مهمة الإعمار وبناء البنى التحتية وتعمير البلاد بإذن الله ينبغي ان تبدّا بالقيام بمشاريع إنتاجية استراتيجية وضمن إمكانياتها وبمواد أولية محلية وهذا لا يعني بالضرورة الاتجاه إلى صنع الطائرات والبواخر ومركبات الفضاء، بل يجب ان تكون البرامج طموحة وعملية واقعية بعيدة عن المشاريع الخيالية من ناحية ومن ناحية أخرى يجب ان تتوفر لهذه المشاريع القاعدة الاقتصادية وتخصيص الأموال الأزمة في ميزانية الإقليم لإنجاح تلك المشاريع.
الاتجاه إلى الصناعة خطوة مهمة لضمان مستقبل الأجيال القادمة وربما افضل طريقة إجراء دراسة للجدوى الاقتصادية والاستراتيجية والبيئية للصناعة في الإقليم وقد يعتمد في بداياتها على البترول ومشتقاته كخطوة أولى ومن ثم إيجاد ما يميز الإقليم من ثروات طبيعية وطاقات بشرية في المنطقة يمكن الاستفادة منها في تلك الصناعات.
يجب ان لا ننسى بأنّ المؤسسات التعليمية العالية والبحثية يجب ان تكون على مستوى التطور والحاجة إلى الأيدي العاملة الكفوءة والمتدربة لسد حاجة الإقليم للكوادر العلمية. يبقى ان نعلم ان القطاع السياحي كمورد اقتصادي مهم يبقى من أوليات جميع الكابينات الحكومية في الإقليم لان كوادرها تعتمد على البيئة وجمالها في جميع جبال وربى كوردستان والجو المعتدل في الإقليم ناهيك عن جمال التطور العمراني والحضاري لمدن الإقليم وكلها من الثروات المستدامة.

هناك ثروات معدنية وطبيعة في ارض كوردستان لم يتم لحد الآن استغلالها ويجب إجراء بحوث ودراسات عن جدوى الاقتصادي لاستغلالها في المستقبل. كما أشرت إلى ان السياحة مصدر من مصادر الثروة المستدامة أشير كذلك إلى تاريخ الإقليم من وجود آثار تاريخيّة للحضارات القديمة في المنطقة إذ تعتبر جزء من ارض الرافدين ارض الحضارات البشرية الأولى.
التعدد الثقافي والعقائدي لشعب كوردستان جزء أساسي من ثروتها البشرية. راجع مادتنا حول التركيب السكاني في الإقليم على صفحات التآخي تحت الرابط التالي:

الشعوب بين التطرف القومي والوطنية

لابد الإشارة إلى دور المبادرة الفردية للبرجوازية الوطنية لشعب كوردستان وأهميتهم في تطوير الاقتصاد الوطني فهم يمثلون بانتشارهم في جميع ربوع كوردستان أساسا صلدا للثروة الوطنية لشعب كوردستان وبمبادرة شخصية منهم بإنشاء المشاريع والشركات الصغيرة والمتوسطة والمصانع هؤلاء يمثلون أصحاب الفكر التجاري والمبدعين من المقاولين جميعا يمكنهمً المشاركة في العملية التنموية والإسراع في عجلة تطوير الاقتصاد الوطني للإقليم.
التجربة الإيرانية والتركية جديرة بالدراسة في هذا المجال.
أن بناء الصناعات الوطنية والاستفادة من ثروات الإقليم البشرية والطبيعية يساهم في دفع عجلة التقدم والتطور والاستقلالية الاقتصادية وتامين الأمن الغذائي من المحاصيل الزراعة والثروة الحيوانية وفرة مصادر المياه والأراض الزراعية الخصبة يمكن استغلالها كأداة للاستقلالية الاقتصادية والسياسية ويجب ان تكون من أولويات الخطط الاقتصادية المستقبلية وعلى جميع الحكومات نهج سياسة زراعية تضمن الاكتفاء الذاتي وتصدير الفائض من المحاصيل الزراعية عن طريق التعليب وإشهار البضاعة في المنطقة وتجير الأراضي لتامين الغطاء النباتي الدائم ومساعدة الفلاحين وتسهيل عملهم الشاق وتفضيل محاصيلهم في الأسواق لمنافسة تلك الرخيص من المستورد. لان ذلك سيؤدي إلى تعزيز استقلالية الاقتصاد الوطني وحتى استقلالية القرار السياسي.
الجدير بالذكر ان في السويد مناطق صناعية مزدهرة ومنطقة صناعية نموذجية فيها تسمى “گنوگخو” وتمتاز بما يسمى “بالروح” التجارية وقد زرت المنطقة إبان دراستي في الجامعة قبل اكثر من ثلاثون عاما وقابلت احد أصحاب المصانع وشرح لي ما معنى “الروح التجارية” الخاصة بالمنطقة فقال موضحا ان في منطقتنا هناك روح للتضامن بين الجميع فكل ما احتاجه في إنتاج أي بضاعة في مصانعي يأتي من نفس المنطقة الجغرافية بل أساعد أبناء منطقتي بإنشاء المعامل وتزويدي بالأدوات الاحتياطية التي احتاجها وهو بدوره يساعد احد أبناء العائلة او أخرون من المعارف من المنطقة لتامين المواد الأولية لمصنعه وهكذا ان جميع مصانع المنطقة سلسلة مرتبطة كعائلة واحدة ومتضامنة. الجدير بالذكر في هذا السياق ان روح التضامن كان سائدا حتى بين تجار بغداد وقد ساعد التجار والدي في الأحوال الصعبة وكنت شاهدا على ذلك في نهاية الستينيات، ولكن سيطرة حزب البعث على السلطة ومن ثم الغاء القطاع الخاص وإنشاء شركات تجارية حكومية أمثال: الشركة الأفريقية وشركة استيراد الأجهزة الدقيقة. كما أدى تأميم التجارة الى زوال القطاع الخاص تماما من شارع الرشيد ناهيك عن زج العشرات من التجار في السجون وإعدامهم ومصادرة أملاكهم وخاصة من التجار الكورد وتهجيرهم الى ايران مع بدايات 1980.

الجدير بالذكر بان فلاحوا كوردستان تركوا مزارعهم وحقولهم لعدم توفر الجدوى الاقتصادي لعملهم فيما بدأ واضحا ان تربية الأغنام والأبقار ترى تراجعا كبيرا. هنا في الغرب وبصورة عامة يعتبر الفلاح من الأغنياء ويحصل على معونات من الدولة وخاصة في دول الاتحاد الأوربي وتعتبر الزراعة والثروة الحيوانية من المؤسسات الاقتصادية المهمة داخل الاتحاد الأوربي. هناك مساعدات هامة لمربي المواشي وتقوم جمعيات تعاونية في السويد بشراء الحليب منهم مثلا. الدول المحيطة بالإقليم تواجدت ككيانات مستقلة منذ الألاف السنين ولهم تجربة في الحكم وتاريخ إمبراطوري قديم. الإقليم بتجربته السياسية الندية تمكنت وبفترة قياسية وعلى الأقل في مجالي الإعمار والبنى التحتية تجاوز المعقول وتمكن من إجراء قفزة نوعية. لكن كما هو معلوم جميع المشاريع ستنتهي يوما ويبقى فقط المحافظة على تلك المكتسبات وتجديرها بين الحين والأخر.
تجربتي الشخصية في فترة زمنية تعدى النصف قرن في اوربا وانتقالي بين دولها باختلاف أنظمتها رأيت بان دول اوربا بعد ان انتهت من تشييد بنيتها التحتية والتي انهارت جراء حربين عالميتين بدأت بسياسة جديدة لجلب الرفاه الاجتماعي لسكانها وهي قادرة اليوم من ضمان امنها الاقتصادي الغذائي وفيها مصادر للمياه كافية ليس فقط لمواطنيها، بل العالم بأجمعه. لان استراتيجيتها لضمان وتامين الأمن الغذائي يحتذى به وميزانيتها كبيرة للقطاع ألزراعي مثلا خاصة ضمن الاتحاد الأوربي ويعتبر مملكة إسبانيا رائدة في هذا المجال.
بالنسبة لكوردستان لا يتوفر لدي معطيات وإحصائيات كافية لأجراء أي تحليل مستقبلي لما سوف تكون عليه تطور الإقليم وفي كافة المجالات.

استقلالية وامن الاقتصاد الوطني مهمة دائمية ومستمرة لجميع الحكومات وكل ما ذكرته أعلاه يطبق على كافة دول والكيانات السياسية في العالم. تمكن الإقليم وفي فترة قياسية وبواردات لا تتعدى 17% من ميزانية الدولة الاتحادية من وضع برامج تنموية بحيث تطورت الى مصاف دول المنطقة المستقلة منذ قرون. إن أي تطور وتقدم في الإقليم سينعكس إيجابيا على العراق ودول المنطقة بأكمله وفي النهاية على الشرق بأكمله، كما إنها تعزز الأمن والسلام في المنطقة.

السويد
٢٠٢٥

قد يعجبك ايضا