هشيار زيباري: صوت من العقل الكوردي يتحدث من على منبر الجزيرة

د. ابراهيم احمد سمو

الجزء الثاني و الاخير

في حلقة استثنائية من برنامج “الوجه الآخر” على قناة الجزيرة، كان الجمهور على موعد مع حوار نادر وصريح، جمع الإعلامية البارزه (علاء الفارس ) مع معالي وزير الخارجية العراقي الأسبق، هشيار زيباري، الرجل الذي شغل المنصب لما يقارب أحد عشر عاماً، في واحدة من أدق وأصعب مراحل العراق الحديث.

هذا اللقاء، الذي جرى بثه بالأمس، لم يكن مجرد استرجاع لذكريات مسؤول عراقي سابق، بل كان شهادة حية من رجلٍ عاش الحدث، بل وكان في قلبه. تحدث زيباري من موقعه كفاعل سياسي، وكمراقب حاد البصيرة لما جرى ويجري، واضعاً الكثير من النقاط على الحروف، في مسائل شائكة طالما لفّها الغموض والتكتم، سواء ما يتعلق بسقوط بغداد، أو العلاقات الكوردية – الأميركية، أو دور القيادات الكوردية في لحظات التحول الكبرى.

من الذاكرة إلى الحاضر
سبق لنا أن تناولنا في مقال سابق إشارات عابرة إلى هذه المرحلة، ولكن حديث زيباري في برنامج “الوجه الآخر” أضاء جوانب كانت غائبة، وفتح الكثير من الأبواب المؤصدة. لم يكن العرض هذه المرة عاماً، بل غاص في التفاصيل، وفتح أبواب الإيحاءات والرموز التي بدت واضحة رغم تكتمه الدبلوماسي المعتاد. فما قُدِّم لم يكن مجرد سرد تاريخي، بل شهادة حيّة من أحد أبرز صانعي القرار في تلك المرحلة، وكأن الرجل قرر أن يُفصح أخيرًا، لا من موقع الانتقام أو تبرئة الذات، بل من موقع الإدراك لواجب نقل الحقيقة.

سرّ اللقاءات، وسرّاء الحضور
حين تحدّث زيباري عن اللقاءات السرية، وعن لحظة سقوط بغداد، لم يكن يستعرض معلومات سبق نشرها، بل قدّم مشاهد من كواليس لم تُعرض من قبل، مشاهد يظهر فيها الرئيس مسعود بارزاني ونجله مسرور، إلى جانب زيباري، في لحظات مصيرية كانت تجري خلف الستار. وما بين الحضور اللافت للرئيس الراحل جلال طالباني ونجله بافل، بدا أن خارطة جديدة للعراق كانت تُرسم، على وقع حرب كونية، وعمل داخلي، وصمت دولي.

لكن المفارقة الأبرز، وربما الصادمة، كانت في حديث زيباري عن ذهابه بنفسه ليبلغ رئيس الوزراء آنذاك، عن خطر داعش نوري المالكي، بما يجري في الموصل. المالكي، حسب وصف زيباري، بدا وكأنه آخر من يعلم، رغم أن “داعش” كانت على الأبواب، والمدينة تنهار تحت وقع التخاذل أو التواطؤ. لم يكن هذا الاتهام مباشراً، لكنه أتى ضمنياً، حاملاً في طياته سؤالًا أخلاقيًا وسياسيًا كبيرًا: كيف ينهار بلد بهذه الطريقة، دون أن تكون هناك محاسبة حقيقية؟

جرأة الكشف: من نهب المال العام إلى شجاعة التسمية

اللافت في حديث زيباري، أيضاً، هو جرأته في تسمية من تورطوا في نهب المال العام، دون تورية أو تلميح. أشار صراحة إلى أرقام فلكية، تتجاوز الستة مليارات دولار، سُرقت بأسماء معروفة لا تزال حرة طليقة، تتنقل وتصرّح وتُستقبل، وكأن لا شيء كان. هذا النوع من الصراحة نادرٌ في الوسط السياسي العراقي، خصوصاً إذا جاء من شخصية بحجم هشيار زيباري، الذي يعرف تفاصيل المشهد أكثر من أي مراقب خارجي.

الدور الكوردي ورسائل الوساطة
من النقاط المهمة التي توقفت عندها شهادته، هي تلك المتعلقة بالدور الكوردي كوسيط داخلي في لحظات الاقتتال الكوردي – الكوردي ، و في تلك اللحظة، و الدور البارز و الوسيط الذي لايستقر و يرسلون من خلاله الرسائل، وينقلون المقترحات، ويحاولون تجنيب البلاد حمام دم. لم يقدّم زيباري ذلك بوصفه إنجازاً شخصياً، بل كدور وطني الثقة به من قبل القيادة الكوردية، في لحظة كان الجميع يركض نحو المجهول.

الاتفاق الذي غيّر المعادلة
ومن قلب هذا الحوار أيضًا، برز اسم “اتفاق 1998” الذي جمع الرئيس بارزاني و مام جلال برعاية أميركية، وكان زيباري حاضراً بقوة في ترتيباته. تحدّث عن لقاءات مع صناع القرار الأميركيين، وعن حضور لافت لوزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت، التي تصدرت مانشيتات الصحف العالمية آنذاك. كان الكورد، يخطّون بداية لمسار سياسي جديد، مسار بدأ يؤتي ثماره في إقليم كردستان لاحقًا، حيث الاستقرار والأمن حتى العام 2013، قبل أن تعصف العواصف مجددًا، بدخول داعش، ورحيل مام جلال، وتغير المعادلات الإقليمية والمحلية.

من الطفولة إلى القيادة
لكن ما شدّ الانتباه أكثر، كان حديث زيباري عن الرئيس مسرور بارزاني، حين استعاد تفاصيل دقيقة من طفولته، وكيف عاش الرئيس في كنف الجد ومع الخال . كان مدللًا، لكنه أيضاً كان مهيأً، تربى في بيئة مزيجها البراءة والمسؤولية. ثلاث عشرة سنة قضاها في رعاية مباشرة من الجد وبقربه الخال هشيار، كانت كافية لتشكّل وعيًا، وتنحت شخصية القائد. وها هو الخال اليوم يتحدث عن تلك المرحلة بحب وفخر، مؤكدًا انا أن تلك السنوات تصلح لأن تُدوّن في كتاب، ليس فقط عن الرئيس، بل عن حقبة كاملة من التربية السياسية والاجتماعية في البيت الكوردي.
السياسة… ذلك الممنوع على الأبناء من المفارقات اللافتة
التي قالها زيباري أيضًا، توصيته لأبنائه بالابتعاد عن السياسة. لم يكن ذلك من باب الزهد أو الترفع، بل تعبيرًا عن قناعة راسخة أن السياسة، في واقع العراق اليوم، ليست طريقًا نظيفًا. هذه التوصية لا تقتصر على زيباري، بل يرددها كثير من الساسة المخضرمين، من جيل الستينات والسبعينات، في تعبير مرير عن خيبة الأمل. لكنها، في الوقت نفسه، تمثل نقطة ضعف في البناء السياسي المستقبلي، إذ أن عزوف الأبناء عن السياسة يترك الساحة فارغة لأصحاب الأجندات المشبوهة، ويخلق قطيعة معرفية بين الأجيال.

ختامًا: بين التحذير والأمل
في نهاية هذا اللقاء، لا يمكن للمتابع إلا أن يشعر بأن زيباري، رغم صراحته الحادة، لا يزال يملك شيئًا من الأمل. أملٌ مشروط بإرادة الإصلاح، وبقطع دابر الفساد، وبوعيٍ كوردي – كوردي جديد. ونقولها بوضوح: “إن لم نحسب حسابًا للفساد اليوم، سيحاسبنا الزمن غدًا.” ربما جملة تختصر مأساة العراق كله، وتضع الإصبع على الجرح، دون أن تدّعي امتلاك العلاج، لكنها على الأقل تصرخ من أجل التنبّه من خلالنا و الامر متروك لاهل القرار.

قد يعجبك ايضا