العقل السياسي بين النضال والاغتراب: هشيار زيباري نموذجاً لقيادة تعرف كيف تصنع المجد

د. ابراهيم احمد سمو

وأنا أسترجع اليوم ما كتبته قبل أعوام في ترشيح هشيار زيباري لرئاسة الجمهورية، وأتابع بلهفة اللقاء المرتقب معه هذه؛ الليلة في العاشرة مساءً على شاشة الجزيرة، ضمن برنامج “الوجه الآخر”أجدني بين حبّي الدائم لالتقاط المواضيع المهمة، وتحويلها إلى أحداث حيّة نابضة بالحيوية، وبين شعوري ككاتب مهتم بهذا الرجل السياسي، لا من باب الانتماء، بل من موقع طالب يتعلّم، ويتأمل، ويقتنص الجُمل المفيدة من معلم تعلّم منه عن بُعد. لقد تابعت سيرته الذاتية منذ زمن، لا فقط من خلال اللقاءات الرسمية، بل من تصريح هنا، ومداخلة هناك، ومن حضوره الدائم في التقريب بين وجهات النظر، وسعيه لإنجاح الوفاق في زمن التصادم.

هو نموذج لقائد يجيد لغة التوازن، يسعى إلى جمع الأضداد في بوتقة نضال مشترك، بلغة سياسية جديدة، داخلية في جوهرها، لكنها موحّدة في خطابها نحو الخارج، وخصوصاً نحو العمق العربي في العراق.

استمعت إلى اللقاء بجدية تامة، في لقاءٍ استمر قرابة (55) دقيقة، تميز بالصدق والصراحة، تناول هشيار زيباري محاور سياسية واجتماعية بحديث شيّق قلّ نظيره. جمع بين العمق والوضوح، فكان استثنائيًا في طرحه، جريئًا في إجاباته، ومقنعًا في مواقفه، ما جعله أقرب إلى القلب والعقل معًا. اللقاء لم يكن مجرد حوار إعلامي، بل شهادة حية على وعي سياسي وتجربة إنسانية ثرية، نُقلت بروحٍ صادقة تنمّ عن شخصية فريدة ومسيرة نضالية لافتةتابعت الأسئلة البسيطة في ظاهرها، و الجريئة في محتواها، ووقفت أمام الإجابات التي كانت ضرورية، لا للبعيد فحسب، بل للقريب الذي ما زال يجهل تفاصيل تلك الرحلة الطويلة. من هو هشيار زيباري؟ كيف قاد المسيرة؟ أين استقرت به الأيام؟ وكيف انتقل من المنفى إلى الميدان، من الغربة إلى موقع القرار؟

من ضيافة الأردن إلى سوريا، ثم العودة إلى الأردن، انتقالاً إلى لندن، حيث أكمل دراسته العليا، وناقش أطروحته في الماجستير بعنوان مثير في علم الاجتماع التنموي، ثم دخل المعترك السياسي، بدايةً من موقع إعلامي وعلاقات عامة، حتى أصبح أحد الوجوه القيادية البارزة.

وفي الوقت الذي كان يعيش فيه نجاحاته على المستويين المحلي والدولي، كانت عائلته تدفع الثمن. هناك من دفع دمه في سبيل القضية، فالأخ الأكبر سُمِّم، وآخرون رحلوا في اصطدامات مدبرة، لم تُخفَ حقيقتها بعد سقوط النظام، بل كُشفت الأوراق وتبينت الحقائق.

هشيار زيباري… المعروف بلقب “الخال”، لم يكن اللقب نابعاً فقط من قرابته العائلية بالرئيس، بل من شخصيته التي انسجمت تماماً مع صورة “الخال” في المجتمع الكوردي: الرجل الحكيم، الذي يرى في نفسه مسؤولية تجاه الجميع. لذلك، أصبح لقب “الخال” دارجاً على ألسنة الصغار قبل الكبار، كتعبير عن الاحترام والمكانة.

كان دائم التذكير لأولاده بأن يبتعدوا عن السياسة، فخطها أحمر، وهو نفسه لم يكن يبحث عنها، بل الظروف هي التي دفعت به إليها، والمآسي هي التي صنعته، ليقف يوماً في وجه مَن أرادوا الأذى لإخوته، ويقود المسيرة من موقع التضحية.

هذه هي المعادلة التي نفتقدها اليوم في كثير من قادتنا: أن يكون السياسي مثقفاً، قارئاً، واعياً، كاتباً، صاحب فكر قبل أن يكون صاحب قرار. يؤلمني أن أرى قادة اليوم بعيدين عن الكتاب، عن المعرفة، عن الثقافة. إن السياسي الذي لا يقرأ، ولا يكتب، ولا يتأمل، لا يمكنه أن يقود شعباً نحو مستقبل أفضل.

أكثر ما أعجبني في لقاء “الخال” الأخير، تلك اللحظات التي كان يتحدث فيها عن القراءة: قال إنه إذا لم يقرأ لأكثر من ساعة ونصف يومياً، يشعر بالجوع، والألم، والتعب، وكأن شيئاً ينقصه. وتلك هي الروح التي يجب أن تسكن كل من يتصدّى للعمل العام.

أجوبته كانت صريحة، واضحة، بعيدة عن التزييف، خصوصاً حين تحدث عن حياته العائلية، وعن حجم الألم الذي سبّبه له الابتعاد والتغرّب، وعن الصداقات التي ترسخت منذ الطفولة، وبقيت حاضرة رغم المسافات.

لقد شعرت وأنا أتابع اللقاء، أنني اقتربت من روحه، لا من باب الإعجاب، بل من باب التقدير الحقيقي، للإنسان قبل السياسي. أقلامنا ليست للبيع، ولا نبحث عن ودّ أحد، لكننا حين نرى نموذجاً يستحق أن يُكتب عنه، فلا بد أن نكتب، لا لأننا لا ننام إن لم نفعل، بل لأننا نشعر أن في أعناقنا واجباً تجاه أهل العرفان، وتجاه القامات التي بقيت واقفة رغم العواصف عمراً قضاها “الخال” مع القيادة، ومع النضال، ومع الدبلوماسية، ومع الصراعات، ومع الوفاق، ومع الهجرة، ومع الوطن. ولم يفقد خلالها توازنه، ولا إيمانه، ولا حماسته. بل ظل ذلك الرجل الذي كلما تحدّث، شعرنا أن خلف صوته ذاكرةً كاملة، ومسيرةً غنية، ووجعاً دفيناً، وأملاً صلباً لا ينكسر.

هذا هو هشيار زيباري كما رأيته، وكما تابعته، وكما سمعته، وكما قرأته. نموذج لا يكرَّر كثيراً. رجل اجتمعت فيه ملامح السياسي والمثقف، الدبلوماسي والمناضل، القريب والبعيد،و الخال ،افضل الالقاب.

في زمن صارت فيه السياسة سلعة، والقادة عناوين خاوية، نحتاج إلى أمثال “الخال” الذين يعرفون معنى الوطن، ويدفعون ثمن الانتماء له من دمهم، ومن راحتهم، ومن غربتهم.

وإن كان لي أن أختم بشيء، فهو أن القلم الذي لا يكتب عن هذه النماذج، يفقد قيمته. وأنا، كاتبٌ لا يعرف أن ينام دون أن يكتب مقالاً أو مقالين في اليوم، أشعر بالامتنان لأنني كتبت اليوم عن رجل يستحق، لا ليكسب ودي، بل لأني وجدت فيه ما لم أجده في كثيرين

قد يعجبك ايضا