عبور من الحرية إلى القيد

د. ابراهيم احمد سمو

بين الأمس واليوم يمتد جسر لا يعود إليه العابرون مهما بذلوا جهدهم لاسترداد خطواتهم الأولى. في الأمس كنا نحمل هموم الحياة بخفة، نغني للحياة ونغفو على وقع الذكريات التي تمنح الروح دفئها وبهجتها. أما اليوم فقد انطوت دروب الحرية وتكاثفت حولنا ثقوب المسؤوليات، فصارت المواقع تقيدنا بقيود لا ترى ولكن نشعر بثقلها كل يوم.

كنا في الأمس نخرج بلا موعد، نتجول في أزقة الحي، نملأ كفوفنا بفناجين الشاي، نتبادل الابتسامات والضحكات، وننصت لأحاديث البسطاء بقلوب خفيفة. لم نكن نهتم بمن يرانا أو بما يقوله عنا المارة، كنا نعيش اللحظة بحريتها البسيطة كأن لا غد ينتظرنا.

واليوم، غابت تلك اللحظات البسيطة التي كنا نقتنصها من وقتنا، وانتهى زمن التجوال المريح. استهلكتنا الاجتماعات التي لا تنتهي، وأثقلت كاهلنا الأوراق التي تحتاج إلى توقيعات لا تحقق للروح راحة. صارت أسماؤنا ترتبط بالطلبات والأوامر، نُذكر في المجالس واللقاءات لا لذواتنا، بل لثقل المواقع التي شغلناها، وصرنا أسرى لضوابط لا نراها لكنها تشدنا إلى الأرض.

لم يعد المكان قادراً على أن يعيدنا إلى ما كنا عليه، فحتى إن عدنا إلى المقاعد القديمة، نجد الأرصفة والجدران وقد تغيرت ملامحها، لا لأن الحجارة قد تبدلت، بل لأن قلوبنا كبرت بهمومها، وأرواحنا اتسعت بمسؤولياتها.

نقف بين خيارين يجلدان الحيرة فينا: القبول بشروط السلطة فنفقد شغف الإبداع، أو الرفض فنخسر فرص النجاح التي حلمنا بها طويلاً. وفي كلتا الحالتين ندفع ثمناً باهظاً: إما ضياع الحرية أو خسران المكانة.

تحول طريق الإبداع إلى نفق مظلم تتحكم فيه نزوات السلطة، وأصبحت الأفكار الجديدة تخشى الاصطدام بجدران الاجتماعات والقوالب الرسمية. إن حاولنا أن نكون نجوماً في فضاءات العمل الرسمي، وجدنا أنفسنا مقيدين بقيود لا نراها ولكن نشعر بكل شبر منها، وإن تمردنا خسرنا فرصاً ما كنا نحلم بها يوماً.

الحقيقة القاسية أن الأمس لا يعود، وأن اليوم يفرض إيقاعه دون مقدمات، وأن الغد ينهض من بين أنقاض ماضينا بعينين لا تعرفان الرحمة. ولم يعد أمامنا إلا أن نختار طريقنا، أن نرفض التكلس والجمود، وأن نتمسك بما تبقى من جذوة حريتنا حتى لو تضاءلت، وحتى لو خبت.

بهذا التوازن الصعب، بين ما ذهب وما بقي، نحاول أن نعيد تشكيل حريتنا. نحتضن ذكريات الأمس في قلوبنا كما يحتفظ النحات بقطعة حجر قديمة ليمنحها حياة جديدة. نزرع في تربة اليوم بذور الأمل رغم كل القيود التي تحيط بنا.

فالحرية ليست توقيعاً رسمياً ولا مقعداً مرتفعاً، بل هي قدرة حقيقية على السير في دروب الحياة بوعيٍ متجددٍ، لا يخشى الإغلاق، ولا ينكسر عند أول باب موصد. وفي نهاية المطاف، تبقى الحرية شعاعاً لا تطفئه المناصب ولا تقيده الكراسي، تشرق كلما خرجت فكرة صادقة إلى النور، وتعيد إلى أرواحنا ضحكتها القديمة وخطوتها الحرة وإيمانها بأن القادم رغم كل شيء قد يكون أجمل

قد يعجبك ايضا