د. ابراهيم احمد سمو
الحاضر هو اللحظة الحقيقية التي نعيشها، وهو الأساس الذي تُبنى عليه أعمدة المستقبل. أما الماضي، بما يحمله من دروس وتجارب، فلا يجب أن يكون قيدًا يعيقنا عن التقدم، بل يجب أن يكون مشكاةً نهتدي بها لنحسن صُنع يومنا. فالمستقبل، في نهاية المطاف، ليس إلا انعكاسًا لما نغرسه في الحاضر من قيم وجهود وأحلام.
من لا يمتلك ماضيًا، يستطيع أن يصنع ماضيًا يُذكر ويُحتفى به بعد أعوام. أما من له ماضٍ، بشقيه الإيجابي والسلبي، فله الخيار: أن يوثق الإيجابي منه ويعتز به، ويعمل على تصحيح السلبي، فينقلب إلى قوة تدفعه للأمام بدل أن تكون عبئًا يشده إلى الوراء. بين هذا وذاك، تتغير الأحوال متى ما بدأ الإنسان بحاضر يليق بطموح الفارس، الذي لا يرضى إلا بالعلو والمجد.
ليس المطلوب أن نعيش أسرى الماضي، ولا أن نتنكر له. فالماضي هو مخزون التجربة، ومرآة الأخطاء والانتصارات معًا. لكنه أيضًا ليس قدرًا محتومًا. من عظمة الإنسان أنه قادر على أن يكتب تاريخه في كل يوم، طالما امتلك الإرادة والصدق مع الذات.
كثيرًا ما نسمع المقولة الشهيرة: “الحاضر وليد الماضي”، وهذه المقولة، وإن كانت صحيحة في بعض جوانبها، إلا أن الفكر المعاصر تجاوزها بمعنى جديد: أن الماضي ليس بالضرورة من يتحكم في حاضرنا ومستقبلنا، بل هو مجرد رصيد نستفيد منه حين نحتاجه. لا ننكره ولا نغرق فيه، بل نستلهم منه فقط ما يليق بنا، ونمضي بثقة نحو الأمام.
فإذا كان الماضي جميلًا وأداؤه سليمًا، فإنه سيبقى متزامنًا مع الحاضر، داعمًا له، ومصدر قوة وثبات. أما إذا كان الماضي مشوهًا أو سلبيًا، ولم يسع الحاضر لتغييره أو تصحيحه، فإنه يتحول إلى عبء ثقيل يظل جاثمًا على القلوب، يورث الحسرة والندم لكل من يعيش عليه دون سعي للتجاوز أو الإصلاح.
من استطاع أن يجعل حاضره امتدادًا لما هو إيجابي في ماضيه، سيلحقه المستقبل بالنجاح، ويُثبت اسمه في سجل الخالدين. وهكذا تتشكل دورة الحياة: ماضٍ جميل، حاضر مشرق، ومستقبل واعد.
ولتوضيح هذه الصورة أكثر، يمكننا أن نستعير مثالًا من الرياضة، حيث نرى أن فريقًا رياضيًا حين يحقق البطولات والنجاحات، يعود الفضل غالبًا للمدرب الذي قاد الفريق بمهارة. ولكن إذا جاء موسم آخر وخسر الفريق، فإن أصابع النقد تتجه نحو نفس المدرب، ويُطالب كثيرون بتغييره أو حتى طرده. هذا هو جمهور الحياة: يصفق لك حين تنجح، ويهاجمك إذا تعثرت، وكأنهم ينسون كل جميل مضى!
وهذا المثال ينطبق أيضًا على مجالات أخرى كالحياة السياسية والإدارية. فالقائد الناجح في فترةٍ ما، إذا أخفق لاحقًا ولم يواكب التغيرات أو لم يجدد أدواته، يجد نفسه محاصرًا بالمطالبات بالتغيير والإقصاء، مهما كانت إنجازاته السابقة. وهنا تظهر أهمية أن يكون الحاضر دائم التجدد، لا مكتفيًا بأمجاد الماضي.
لهذا، لا يكفي أن نرتكن إلى ما حققناه من قبل، بل علينا أن نجدد حضورنا في كل يوم، ونثبت جدارتنا باستمرار. الماضي الجيد شرف، ولكن الحاضر الجيد ضرورة. والنجاح الحقيقي هو أن نظل قادرين على صناعة الفارق اليوم، لا أن نظل نروي بطولات الأمس وكأنها كافية لمواجهة تحديات الغد.
وهكذا، فإن سر التقدم يكمن في الجمع بين الوعي بالماضي، والالتزام بجودة الحاضر، مع طموح لا ينطفئ نحو مستقبل أفضل. ومن ينجح في الموازنة بين هذه الأبعاد الثلاثة، يحظى بالخلود الذي يسعى إليه كل إنسان.
الحياة، في جوهرها، لا تنتظر المترددين ولا تمنح جوائزها للغافلين. هي تفتح ذراعيها للشجعان ليعترفوا بأخطائهم، والقوة ليصحح مساره، والحكمة ليستفيد من تجاربه، والإصرار ليبدأ من جديد إن اقتضى الأمر.
ولذلك، فلنحرص جميعًا على أن نجعل من حاضرنا مشهدًا يليق بما نحلم أن يقال عنا يومًا ما. ولنتذكر أن التاريخ لا يرحم من استسلم، بل يخلد من قاوم وتمسك بالأمل، مهما كانت العواصف.
في النهاية، ليس المهم أن تكون بداياتنا مثالية، بل أن تكون خطواتنا القادمة أكثر نضجًا ووعيًا. فلنكتب اليوم قصة تليق بغدٍ نحلم به، ولنجعل من كل يوم فرصة لصنع ماضٍ نفتخر به، وحاضر نعيشه بكرامة، ومستقبل نلقاه بأمل وثقة