خمسون عاماً في محرقة الصحافة: في سيرة الإعلامي كوردستاني يحارب نفسه

إبراهيم اليوسف

يصادف ربيع العام المقبل 2026 مرور خمسين عاماً على دخولي محراب الصحافة، وتحمّلي لثقل الكلمة وتبعاتها. مؤكد أنني لا أستطيع، خلال مقال كهذاـ وأنا أعدني كاتب مقال فحسب ـ أن أستعرض علاقتي بالصحافة منذ طفولتي. إذ إنني وجدت في بيتنا بعض المجلات القديمة، ومنها تلك التي تم نشر مضمون بعضها في أحد الكتب المشتركة بيني وسواي، كما أن بيتنا كان من البيوت التي توفرت فيها المكتبات. وقد أتيح لي أن أتدرب على فن الخطابة وأنا طفل، بل وأن أحاكي المجلة المدرسية في منتصف الستينيات، وأعد مجلات بيتية مثلها، وأن أقرأ أية صفحة من جريدة تصل قريتنا كلفافة لحاجة تبضعها أبي أو أحد جيراننا من المدينة إلى قريتنا القصية ـ تل أفندي. ألتقطها من الأرض، فأقرؤها، أكثر من مرة!

راسلت صديقات وأصدقاء تعرفت عليهم عبر “ركن التعارف” في بعض المجلات، وراسلت تلك الأقسام التي تُعنى بالأسماء الجديدة. أرسلت كتاباتي الأولى خبط عشواء إلى الصحف المتوفرة، من دون أن أعي ماهي، ومن دون أن أقع في مصيدة مدح طاغية ما، وهو ما أسجله لي، أو يُسجّل لي.

لم أنقطع يوماً عن القراءة: كتباً، ومجلات، وصحفاً، منذ أن فتحت عيني على العالم- ولربما- منذ الصف الأول الإعدادي، وتفاجأت بأنه يتم التعامل مع مقالاتي وأنا طالب في الثانوية في العام 1976، كما بعض السابقين علي تجربة وحضوراً وسناً. كانت البداية في المواضيع الاجتماعية: المهور، الطلاق، الاختلاط، إلى ما لا نهاية له من موضوعات متعددة في ميادين أخرى، منها تغطية الأخبار، لأجدني أميل إلى الكتابة عن هموم الناس.

مارست دوري في هذا المجال، وأتذكر أنه في النصف الثاني من السبعينيات، وكنت قبل مرحلة الشهادة الثانوية، كتبت عن قضايا تهم المواطنين، فاستدعاني محافظ الحسكة حسين حسون، وهددني قائلاً: “سأرميك من هذه النافذة”، وكانت في الطابق الأول أو الثاني في مقرِّ المحافظة، فرميت في وجهه مقولة كنت قد استظهرتها: “لا رقابة على الفكر سوى رقابة الضمير”.

كتبت الكثير من الريبورتاجات في صحيفة تشرين، ومن ثم في صحافة الحزب الشيوعي السوري: جريدة الحزب المحلية ـ في سبيل الأرض والعمل ـ نضال الشعب ـ صوت الشعب ـ قاسيون ـ دراسات، ناقلاً هموم الناس، فصار اسمي عنواناً لكل مظلوم يلجأ إليّ. كتبت بقسوة عن بعض الموضوعات، منها هدم بيوت الفقراء، وإعطاؤهم بدل ذلك قطعة أرض في مكان بعيد، دون تكاليف بناء بيوتهم. ما جعل محافظ الحسكة صبحي حرب يستدعيني، وتحدث إليّ بروح إنسانية، شارحاً ضرورة توسيع الشوارع، وأنهم سيمنحون المتضررين قطعة أرض مضاعفة عن أرضهم التي تحولت إلى شارع.

مرة أخرى، راسلني وزير للاتصالات واعداً أن يلتقيني في قامشلي. كانت هاتان المرتان اللتان وجدت فيهما شخصين متفهمين لما أكتب، بيد أن التهديدات كانت تصلني من رؤساء دوائر عديدة، منها مؤسسة الحبوب التي نُقل إليّ أن أحد سائقيها قال لرئيس الدائرة: “دعوني أدهسه في حادث سير”.

طُرد أخ لي من إحدى مؤسسات البناء، وقال رجل الأمن: “ليتعلم أخوه كيف ينال من الدولة”. أُبعد أخ آخر من العمل. وأخ مهندس لي كُلّف ورقياً بإدارة محطة كهربائية ـ وهو عمل إداري بائس ـ وما إن علم بذلك عن طريق زميل آخر واستنكر ما حدث، حتى أُبعد، فقال زميله الذي يحمل شهادة ثانوية ويدير المحطة: “أخوك معارض”.

بعد انتفاضة الثاني عشر من آذار2004، تم طرد ابني أيهم من العمل، وكان طالب صحافة ويعمل حارساً في مكتب الحبوب، وهو ما حدث مع ابنتي أيضاً خريجة المعهد الزراعي، والحاصلة على شهادة جامعية. تقدمت لاثنتي عشرة مسابقة انتقاء مدرسين، ولم يتم قبولي. نُقلت من ملاك الثانوي إلى الابتدائي، إلى دائرة محو الأمية، إلى وزارة الزراعة، وكان راتبي دائماً أقل من زملائي، لأنني عملت أكثر من ربع قرن دون أن أُعامل بشهادتي الجامعية.

ثم تم نقلي إلى تربسبي ـ قبور البيض ـ لمدة سنتين، وتعرضت هناك لمحاولة دهس بسيارة رجل أمن. عشرات الاستدعاءات، وعشرات التهديدات كانت تتم بعد أي لقاء تلفزيوني أو مقال. ذات مرة، تم استدعائي وأ.سعود الملا للتحقيق في دمشق، وكان أمام الضابط الكبير كومة من الصحف التي كتبت فيها. وهو ما حدث في أكثر من فرع أمني.

ذات مرة، وكان إبراهيم الباشا وعبدالرزاق الباشا حاضرين، قال رئيس فرع أمني في الحسكة: “لم ينجُ منك حتى سيدة الرئيس!”، قلت له: “ننقد الكتاب المقدس، فالرئيس ليس أكبر من كلام الله!”، وعندما خرجنا قال لي عبد الرزاق الباشا على الدرج: “أحييك…”
بعد يومين، اتصل بي رجل الأعمال عبدالوهاب بحري، وهو مقيم في ألمانيا، قائلاً: “لقد حدثني الضابط فلان عما قلته، ثم قال ذلك لي وللشيخ عبدالقادر خزنوي ولا يزال يكرره”.
وإذا كنت قد غادرت سوريا بعد أن قال لي الشهيد مشعل، حفيظ عبد الرحمن، وكل من سُجن: “غادر حالاً!”، فإن أكبر تحدٍ تعرضت له كان منعي من السفر، من قبل الأمن القومي، إلى جانب الجهات المعروفة، وهو ما عرضني لخسارة وظيفة وسكن وراتب جيد في إحدى مدارس الشارقة بالإمارات.

العمل الصحفي بالنسبة إلي كان باب خسارة وخطورة على حياتي، إذ إنني، ما خلا سنوات عملي في جريدة الخليج، لم ألجأ إلى الصحافة كمصدر للعيش، ولم أشعر بالاطمئنان إلا هناك. وما نشر لي في الصحافة العربية بعد 1993 كان جد قليل، بالنسبة إلى صحفي وكاتب لم ينقطع عن الكتابة. الكتابة جعلتني أخسر، على امتداد ثلاثين سنة من عملي الوظيفي، ويكون راتبي أقل من ثلاثة أرباع رواتب زملائي خريجي الجامعة.

الصحافة جلبت إليّ غضب أولي الأمر، كما أن ما هو أكثر إيلاماً أن الصحافة كانت على حساب مشروعي الأدبي. فقد كنت عضو هيئة تحرير في عدد من المنابر، كما عملت في مجلة “مواسم” التي أسستها، ناهيك عن نشري في الصحافة الكردية بانتظام منذ عقود. من بين ذلك، كنت مراسل جريدة “خبات”، وصاحب صفحة ثابتة في آخر القسم الثقافي من “كولان العربي”، عندما كانت جريدة خبات تصلنا عبر نسخة فوتوكوبي، وكانت الكتابة فيها خطراً. وكنت أرفض الاستكتاب في الصحافة الكردستانية، وأقول:
“أتبرع بما أكتبه لأسر الشهداء في كردستان!”

ذات مرة، قال لي أحدهم ـ ويتذكر الأديب خورشيد أحمد ذلك جيداً ـ لم لا تكتب في الصحافة الكردية؟ قلت له أمرين: أولهما أنني أحقق إنسانيتي بهذه الكتابة، فأنا كردي وإنسان في آن واحد!

وقفت مع فضائية “روج” عندما استعداها النظام.
ذات مرة، قال لي محمد أمين أبو كاوا، وكان في إقليم كردستان، وتحدثنا في ندوة في “ك ت ف” بمناسبة أربعين شهداء الانتفاضة، وأنا هنا في كردستان: “كنت أفكر بجرأتك، رغم أنني قررت عدم العودة”، وكان الأستاذ محمد إسماعيل قد كلف أحدهم بالمشاركة في الندوة، فخرج من بيته ولم يعد، فتم تكليفي، بينما كان هو مسافراً إلى الإقليم في يوم الانتفاضة ذاتها. فأجبت عن الأسئلة كما هي، وكان في بيتنا عدد من الأصدقاء، منهم أحمد حيدر والمرحوم سيامند إبراهيم!

كان بعض الذين تتصل بهم فضائية “روج” قبل الانتفاضة لا يردون على هاتفها، ما اضطرهم للاتصال بي وقلة!

تسعة وأربعون عاماً من الخسارات التي دفعتها أسرتي، لكنها كانت ممتعة بالنسبة إلي، إذ إنني استطعت أن أكون لسان حال من حولي في زمن الرعب، قبل أن يصبح كل صاحب صفحة فيسبوك كاتباً، ومحرراً، ورئيس تحرير في منبره، ويُخيَّل إليه أنه من أكثر شجعان العالم، وهو في مأمن، لا سيما من كان منهم بعيداً عن الخوف.
ولنا فيمن يمسحون ما كتبوه في كل نقطة تحول خير مثال.

ويكفيني الافتخار أنني:
لم أندم يوماً على ما كتبته.
وإن كنت أعلم أن حضور الصحفي، وفق تصوري، آني، موسمي، على خلاف حضور المبدع الذي يبقى. وسعيد لأنني أترك هنا أيضاً بصمتي، على امتداد نصف قرن، لقد هجوت الأسد في زمنه، وفق الرموز التي يتحملها النص الشعري، وشككت بأركان سلطته، إلى جانب من كانوا ينذرون حيواتهم للنقد غير التابع، بما يؤهلهم لاكتساب عداء السلطة، ورضا المغلوب على أمرهم.
واستمررت على الموقف ذاته إلى اللحظة، فلم أجعل من رصيد نصف قرن من الكتابة جسراً لأجل مكاسب سالَ لعاب من كنا في مركبة واحدة، ولا سيما من لحقوا بالمركبة بعد الثورة السورية، وبتنا نخسر في كل مرحلة جزءاً من المحيط.
وهذا قدر كل صاحب رأي حر، وكلمة ناصعة!

قد يعجبك ايضا