الاستاذ الدكتور : نزار الربيعي
يمثل تحديد مفهوم السياسة الخارجية لدولة في حجم الولايات المتحدة الأمريكية بما يميزها عن باقي دول العالم من فاعلية و تأثير في الساحة العالمية أمرا في غاية الصعوبة، و هذا راجع إلى التغيرات المستمرة التي عرفتها منذ استقلالها عن المملكة المتحدة عام 1783 ، سواء في نظرتها و تعاملها مع المحيط الدولي أو من حيث مكانتها في سلم القوى الدولي و حجم تأثيرها على مستوى اللعبة السياسية الدولية .
و من أجل الوصول إلى تحديد تصور مفهومي شامل عن السياسة الأمريكية لابد من تتبع المسار التاريخي لهذه السياسة منذ الاستقلال مع رصد المبادئ و التوجهات العامة و كذا العوامل و المحددات التي تحكم صنع و تنفيذ السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية.
أولاً: التطور التاريخي للسياسة الخارجية الأمريكية:
في البداية كانت الولايات المتحدة تحت سيطرة الاستعمار البريطاني الذي كان متمركزا على السواحل الجنوبية الشرقية لأمريكا الشمالية، و بسبب الطابع الاستبدادي لملوك انجلترا في تلك المستعمرات ثارت هذه الأخيرة على التاج البريطاني عام 1775 بقيادة جورج واشنطن George Washington،وفي 04 جويلية من نفس العام أعلنت المستعمرات استقلالها، و في هذا السياق يرى بعض الباحثين أن إعلان الاستقلال يدل على تبلور فلسفة العقد الاجتماعي و الليبرالية السياسية (المساواة في الحرية(L’égalité dans la liberté) وفي هذه المرحلة المتقدمة من عمر الدولة الأمريكية و بعد ثماني سنوات من إعلان الاستقلال و بفضل مساعدة فرنسا وإسبانيا وهولندا هزمت القوات البريطانية، وتم توقيع معاهدة بين الطرفين عام 1783 اعترفت بريطانيا بموجبها باستقلال المستعمرات الأمريكية الشمالية، وفي مؤتمر فيلادلفيا الدستوري المنعقد سنة 1789 تم إصدار الدستور الأمريكي كما تم بعدها انتخاب George Washington كأول رئيس للولايات المتحدة الأمريكية.
بعد استقلال هذه الأخيرة صار من اللازم أن يكون لهذا الكيان الجديد نظرته الخاصة إلى قضايا البيئة الخارجية, وما الذي يمثله المحيط الدولي بالنسبة له خاصة بعد الاعتراف الدولي من قبل القوى الكبرى آنذاك. ومنذ ذلك الحين عرفت الولايات المتحدة الأمريكية العديد من التوجهات في علاقاتها مع العالم الخارجي، كانت تشكل هذه الأخيرة أساس تعاملها مع الأمم والقضايا الخارجية و ذلك عبر مراحل تطورها منذ نشأتها، حيث كان لكل مرحلة ميزتها و أثرها في بناء السياسة الخارجية الأمريكية منها الانعزالية( من الاستقلال إلى الحرب العالمية الأولى):
و يمكن أن نطلق على هذه الفترة مرحلة بناء القوة الأمريكية، حيث تفطن القادة الأمريكيون بعد الاستقلال إلى ضرورة بناء دولة قادرة على توفير احتياجاتها الداخلية وحماية نفسها من الأخطار الخارجية، وخوفا من أن تمتد مشاكل الدول الأوروبية إلى هذه القوة الناشئة كان لابد من عدم الارتباط السياسي بهذه الدول , وكان قد أكد هذه السياسة الرئيس الأمريكي George Washington في خطبة الوداع سنة 1796 عندما وصف الانعزالية بأنها : ” أكبر قاعدة للتعامل مع الأمم الخارجية ” لكن لابد من السماح بربط شبكة من العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية متى دعت الضرورة والمصلحة إلى ذلك.
سيطر الاتجاه الانعزالي على السياسة الخارجية الأمريكية بعد George Washington و تأكد ذلك مع الرئيس جيمس مونروJames Monroe في
02 ديسمبر 1828 عندما رفع شعار ” أمريكا للأمريكيين ” الذي بقي أساس السياسة الخارجية الأمريكية إلى غاية الحرب العالمية الأولى لقد تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية في فترة عزلتها من بناء نظامها السياسي و قوتها الاقتصادية بحيث شكّل ذلك قاعدة انتشارها الخارجي في تلك الفترة التي اعتمدت فيها على نشر نموذجها القيمي الذي تعتقد أنه يحمل في طياته سعادة الدول و المجتمعات الأخرى الساعية إلى قيم الحرية و الديمقراطية و حقوق الإنسان، و هو الاعتقاد الذي انطلق منه الآباء المؤسسون استنادا إلى فكرة المصير المحتوم التي تحدد الدور الأمريكي تجاه العالم الذي بدأ يتبلور مع نهاية الحرب العالمية الأولى وبعدها الخروج من العزلة و الانفتاح الحذر(فترة ما بين الحربين العالميتين):
على الرغم من سيطرة التوجه الانعزالي على سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تجاه
المحيط الدولي لفترة طويلة، إلا أن وزنها العالمي و قدراتها خاصة الاقتصادية قد شكلت لديها حافزا قويا للاندماج في السياسة الدولية و من ثم عرض نموذجها الرأسمالي على العالم، مما يدل على بوادر تحول في السياسة الخارجية الأمريكية انطلاقا من خروجها من عزلتها.
اعتبرت الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى حربا أوروبية لا مصلحة لها فيها، و كان حيادها تجاه الحرب يكفل لها ميزة التعامل الاقتصادي مع جميع الأطراف، غير أنه وبعد انتخابه في نهاية 1916 اقترح وودرو ويلسون Woodrow Wilson وساطته من أجل سلام بدون نصر ” paix son victoire و كان ذلك أول مؤشرات الخروج من العزلة و التدخل في الشؤون الأوروبية، ثم في 2 أفريل 1917 تدخلت في الحرب إلى جانب دول الوفاق بعد موافقة الكونغرس على ذلك، وكان التدخل الأمريكي عاملا حاسما في هزيمة دول المحور الأمر الذي ساهم في إبراز الدور الأمريكي منذ البداية، و من جهة أخرى أدى التدخل الأمريكي إلى إدخال مفاهيم جديدة في السياسة الدولية، أهمها : الدبلوماسية العلنية، حرية التجارة، حق تقرير المصير، إنشاء تنظيم دولي، و ذلك ما تضمنته مبادئ ويلسون الأربعة عشر التي أعلن عنها قبيل اية الحرب العالمية الأولى في8 جانفي 1918 لقد خرجت الولايات المتحدة فيما بين الحربين من عزلتها بطريقة ذكية
استطاعت من خلالها ربط علاقاتها مع العالم الرأسمالي، و تمكنت من تجنب التأثيرات السلبية للأزمة الاقتصادية العالمية بنسبة كبيرة، بل أصبحت القوة الاقتصادية العالمية الأولى آنذاك، حيث وصل نصيبها من التجارة العالمية عام 1929 إلى 45 %، و ارتفع إنتاجها الصناعي العالمي إلى 42.2 % في الفترة من 1926 إلى 1929 ، كما احتكرت نصف رصيد الذهب العالمي مما جعل الدول الأوروبية تعتمد عليها بشكل أساسي في مختلف المجالات.