إلى مرقد البارزاني الأب: تجديد العهد على درب التضحية والكرامة

د. ابراهيم احمد سمو

المقدمة :

كتبتُ بالأمس مقالًا وقررت تأجيل نشره إلى اليوم، أملًا في إغنائه بما قد تضيفه الزيارة من أبعاد جديدة، ليجيء منسجمًا مع الخطاب وواقع الحال. وتجلّت في الكلمات المرتجلة معانٍ كـ”تجديد البيعة” و”الاستمرار في المسيرة”، وكانت المفاجأة السارّة أن هذه المضامين تكاد تتطابق مع ما تناولته في مقالي، في انسجامٍ لافت لا يُعد تكرارًا، بل تأكيدًا على وحدة الرؤية. وبعد انتهاء المراسم والتقاط الصورة الجماعية، ارتأينا نشر النص كما كُتب بالأمس، ليكون شاهدًا على هذا التوافق الجميل في الطرح والفكرة

المدخل :

نحن ذاهبون، لا نحو قبرٍ بل نحو قلبٍ حيّ لا يزال ينبض في وجدان شعبٍ بأكمله. إلى مرقد الأب المؤسس، البارزاني الخالد، نقصد سائرين في جمعٍ غفير، تتزاحم فيه القلوب قبل الأقدام، وتحمل كل واحدةٍ منها سلامًا صادقًا، وولاءً خالصًا، ومبايعةً لا تعرف المجاملة ولا تُفرض بالإكراه.

في هذه المناسبة، اخترنا أن نصمت قليلاً… أن نراقب هذا الحشد العظيم لا بالكلمات، بل بالدهشة والانتماء. أن نستمع إلى صمت الأرض وهي تتهامس بأسماء رجال مرّوا من هنا حاملين عبء أمة، وماضين في دربٍ محفوف بالتضحيات. وهذا الجمع، الذي تجمع اليوم، لم يأتِ لطقسٍ شكلي، بل لاحتفالٍ حقيقي، ولتجديد عهدٍ لا يبلى، في ذكرى ولادةٍ وحياةٍ ووفاةٍ امتدت لتصنع تاريخًا بحجم وطن.

في هذا اليوم، اكتسى الناس بألوانٍ مختلفة، وتزينت الوجوه بحللٍ جديدة، كأننا في عيدٍ غير عادي، عيدٍ من نوعٍ آخر: عيد الوفاء للقريب البعيد، ذاك الذي لم يعد غريبًا عن أحد، والذي صار جزءًا من تفاصيل الحياة اليومية لمن عرف معنى الانتماء. إنه فرح اللقاء، لا لقاء الجسد بالتراب، بل لقاء الروح بالرسالة. وأيّ لقاءٍ أعظم من هذا، حين تلتقي الأجيال بجذورها، وتستظل تحت شجرة نمت من دماء وبذور وفكرة.

البارزاني الأب لم يكن زعيمًا عابرًا في سجلات التاريخ. بل كان مشروع أمة، رجلٌ حمل الهمّ العام في قلبه منذ بواكير شبابه، ولم يهن أو يتراجع. مضى في درب الكفاح دون تردد، دافع ببسالةٍ نادرة، وألهم الآخرين أن يدافعوا لا مجاملةً ولا استجابةً لنداءٍ رسمي، بل لأنهم صدّقوا الطريق، وآمنوا بالقضية.

لقد نذر شبابه لهذا الدرب، ذاق طعم السجن والمنفى، وتجرع مرارة النكبات. ومع هذا، ظلّ واقفًا كجبلٍ لا تنحني هامته. ومن هناك، من ضفة نهر “اراس ”، عبر مع خمسمائة رجلٍ وأكثر، متحدين الموت والخوف، ليكتبوا سطرًا جديدًا في تاريخ الكورد. لم يكن عبورًا جغرافيًا فقط، بل عبورًا نحو القدر، نحو معركة التحرر والكرامة.

ومنذ تلك اللحظة، لم يعرف الراحة. ظلّ في الميدان، يعود دائمًا بحلّةٍ جديدة، بوجهٍ آخر للثبات، وبصورةٍ جديدة من الوفاء. حتى استقبلته العواصم لا كغريب، بل كقائدٍ له مكانته: من القاهرة إلى البصرة، ومن بغداد إلى قمم الجبال، حيث وُلدت الثورة من جديد.

في أيلول، كانت الثورة عظيمة بحجم الحلم. ثورةٌ بلا مثيل، وضعت حجر الأساس لمشروع وطني جامع. تلاها “گولان”، وفي السنوات التي تبعتها، رغم المرض الذي ألمّ به، ظلّ همه الوحيد هو البلاد. لم يكن يفكر في ذاته، ولا في راحته، بل في أمةٍ تسير على دربه.

حتى حين كان على سرير المرض، كانت الثورة لا تزال في عقله وقلبه. وعندما وافاه الأجل، مضى جسده، لكنه ترك قلبًا ينبض فينا جميعًا. ترك وصيةً مفتوحةً للزمن: لا تتراجعوا، لا تخونوا الطريق، ولا تنسوا أن الحرية ثمنها الدم، والصبر، والثبات.

واليوم، كما في كل عام، يتجه الآلاف نحو مرقده. لا يبحثون عن إعجاز، ولا عن كرامةٍ خارقة، بل عن لحظة خشوع أمام رجلٍ صدق وعده مع شعبه. يقرؤون الفاتحة، ويجددون العهد في إيمانٍ راسخ، وإرادةٍ لا تتزعزع.

في هذه الرحلة، وجدنا أنفسنا نبتعد قليلاً عن الجمع… أخذتنا غفوة تأمل، فحملنا القلم بدلًا من الوردة، وكتبنا هذا المقال بدلًا من قراءة تقليدية للفاتحة. إنها طريقتنا في المساهمة، في الدعاء، وفي تجديد العهد. فالكلمات إن خرجت من القلب، كانت دعاءً، وكان المقال ميثاقًا.

نكتب اليوم لا لنؤرّخ فقط، بل لنؤكد أن الوفاء لا يزال حيًا، وأن هذا الطريق لم ينقطع. نكتب لأن البارزاني الأب لم يكن لحظة، بل مسارًا. لم يكن جسدًا فقط، بل روحًا في كلّ من آمن بأن الكرامة لا تُشترى، وأن الحرية لا تُهدى، بل تُنتزع.

هذا هو الوعد المتجدد، في كل زيارة، في كل دمعة، في كل يد تُرفع بالدعاء. وهذا هو المعنى الحقيقي للحياة بعد الموت: أن تبقى في قلوب الناس، وأن تتحول من شخص إلى رمز، من قائد إلى مبدأ، ومن إنسان إلى إرث.

سلامٌ عليك يا بارزاني، في ذكراك وفي كل وقت. وسلامٌ على من يواصلون المسير من بعدك. وسلامٌ على شعبٍ لا ينسى مَن صنعوا له طريق الضوء وسط العتمة.

قد يعجبك ايضا