من قبو العظام إلى بلاط السياسة: فلسفة الخوف والانبعاث

د. ابراهيم احمد سمو

في ركنٍ معتمٍ من الحياة، حيث يُنسى البشر وتُركن الكرامة على رفّ النسيان، هناك قبو سخيف، لا يحمل من السخافة إلا قذارته، ولا من الظلام إلا شدّته. قبو ملأته عظام متروكة، وحثالات الزمان تتراقص فوق تلك العظام، كأنها تحتفل بموت الأمل وكسر ظهور البشر. في ذلك المكان لا تُسمع إلا صرخات مكتومة، ولا ترى سوى وجوه هاربة من نور الحقيقة، وجلود تشرب الخوف منذ سنين طويلة.

نعم، نحن في قبو، لكن لا يخدعنك الهدوء، فهو ليس سكونًا بل خنوع. قبو يسكنه الخوف، تسكنه الأرواح المنكسرة، والأجساد التي ألفت الرطوبة والعفن، واختارت الانكماش على الذات بدل المواجهة. في مثل هذا القبو لا تُولد القرارات، بل تُدفن فيها الأحلام.

وعندما يأتي النور، لا يأتي طاهرًا، بل مصحوبًا بصفقة، كأننا خرجنا من القبو لا بفضل الشجاعة، بل بفضل مصائب قومٍ كانت عند قومٍ آخرين فوائد. هكذا انفتحت الأبواب، لكن لا باتجاه الحرية، بل باتجاه استغلال جديد، ومسرحية وقائعها معلّبة، نهاياتها معروفة. تحليل المشهد لا يحتاج إلى عبقري، فالبهتان واضح، والخديعة صارخة، والواقع ذاته تحوّل إلى دليل قاطع لا يحتاج إلى مبرر.

في السياسة، إذا لم تكن لاعبًا شاطرًا، ستتأخر وتخسر، وربما ترواح مكانك حتى يهزمك القهر، وتنهار ببطء، بفتح التاء لا كسرها، لتدرك بعد فوات الأوان أن الثقة الزائدة قد تكون أول خطوات الانكسار. فالسياسة ليست حقلًا أخلاقيًا، بل حلبة صراع، وغالبًا ما تكون الصدفة أقوى من الاجتهاد، والحظ أسبق من التخطيط.

ثق بأن هناك من ستهب له كل ما لديك، من ثقة وعطاء، لتُفاجأ بأنه يبيعك في أول منعطف، على طبق من ذهب، كأنك لم تكن يومًا سوى وسيلة لبلوغ غايته. وفي لحظة ما، وفي دهشة قاتلة، تكتشف أن السياسيين ليسوا بشرًا عاديين، بل كائنات تتقن التلاعب بالممكن، وتصنع من الرماد وهجًا، ومن الخديعة وطنًا.

ومع ذلك، هناك لحظة تحوّل، لحظة تلمس فيها أطراف القوة، تمسك فيها زمام المبادرة، وتبدأ ملامح النجاح بالتشكل. حينها فقط، تبدأ اللعبة تتبدل. كل شيء يصبح على ما يرام — ظاهريًا على الأقل. والثقة، ذلك المفتاح الذهبي، تُصبح عملتك الأقوى. وإن كسبت ثقة من يقودك، من تعتبره معلمك الأول في دهاليز السياسة، تُفتح أمامك الأبواب المغلقة، وتصبح قادرًا على المضيّ قدمًا.

لكن لا يكفي أن تسير خلفه، بل يجب أن تقدم كل ما يمكنك، كل ما تملك من عقل وذكاء ودهاء، حتى يثق بك، ويجعلك شريكه في الحلم. ومن هناك، تبدأ الرحلة الحقيقية، حيث لا يعود الماضي قيدًا، بل وقودًا، وحيث لا يكون القبو إلا ذِكرى حزينة تحوّلت إلى درس لا يُنسى.

الفلسفة هنا ليست فقط في تأمل هذا القبو أو تحليل خفايا اللعبة السياسية، بل في إدراك أن الحياة تسير بنا بين الظلام والنور، بين الحيلة والنية، بين السقوط والانبعاث. السياسة، وإن كانت غامضة، إلا أن رموزها واضحة لمن يقرأ ما بين السطور، ولمن يفهم أن الغموض هو أداة للنجاة، لا لعنة.

في النهاية، الخروج من القبو لا يعني التحرر، كما أن الدخول إلى عالم السياسة لا يعني النجاح. الفارق دائمًا يكمن في كيف تخرج، ومع من تدخل، وماذا تُخفي خلف ابتسامتك. ولأننا في زمنٍ لا يعترف إلا بالقوة والذكاء، يبقى النجاح حليف من عرف كيف يصنع من العظام المتروكة سلالم تصعد به إلى حيث لا تصل الريح.

هكذا، في متاهة الغموض والخذلان، يظل السؤال الأهم: هل أنت مستعد أن تخرج من قبوك الحقيقي، لا ذاك القابع تحت الأرض، بل القبو الذي داخلك؟ القبو الذي تسكنه مخاوفك القديمة، وهزائمك المتراكمة، وذكريات الثقة التي طعنتك في ظهرك؟ إن استطعت أن تخرج منه، فحينها فقط، ستكون قد بدأت… لا كسياسي، بل كإنسان يعرف كيف يعيش

قد يعجبك ايضا