د. ابراهيم احمد سمو
ليس من قبيل الصدفة أن يولد الحرف الكوردي الحر في قلب المهجر، بعيدًا عن الوطن، بل لأن الواقع يومها لم يكن يسمح بصوت كوردي أن يعلو بين جدران القهر وتحت ظلال الطغيان. ففي مثل هذا اليوم، قبل أكثر من قرن و تقريبا النيف ، وتحديدًا في 22 نيسان 1898، وُلدت أول جريدة ناطقة باللغة الكوردية، باسم “كوردستان”، في عاصمة الفكر العربي يومها: القاهرة.
لم تكن (كوردستان) مجرد صحيفة، بل كانت زلزالًا ثقافيًا، وخطوة ثورية على طريق وعي الذات الكوردية. جاء تأسيسها وسط ظروف سياسية قاهرة، وبعد أعوام من الإقصاء والتهميش والحرمان من أبسط الحقوق، ومنها الحق في التعبير بلغة الأمة.
وكان هذا الحدث بمثابة الإعلان عن ميلاد عهد جديد، يُرفع فيه القلم الكوردي ليواجه كل محاولات الطمس والإنكار.
جريدة كوردستان، التي أسسها الأمير مقداد مدحت بدرخان، لم تكن عملاً فرديًا فحسب، بل كانت صرخة جماعية باسم أمة، ورمزًا للمقاومة الثقافية. حملت الجريدة على عاتقها مهمة الدفاع عن اللغة الكوردية، وتسليط الضوء على قضايا الشعب الكوردي في ظل الإمبراطورية العثمانية، وكانت منبرًا يُعبّر من خلاله الكورد عن أنفسهم لأول مرة بلغة الأم، لا بلغة المُستعمِر.
رغم نفي الأسرة البدرخانية من وطنها، لم تتراجع، بل جعلت من المنفى منصة للانطلاق. ومن القاهرة إلى جنيف، مرورًا بلندن، تنقلت الجريدة بين العواصم، وكانت أقرب إلى مشروع قومي متنقل، تحمله نخبة من المثقفين المؤمنين برسالة شعبهم، وبضرورة الدفاع عن هويته وحقوقه الثقافية.
ذلك اليوم – يوم التأسيس – لم يكن لحظة عابرة في التاريخ، بل كان البداية الفعلية لنهضة ثقافية كوردية. فمن بعده وُلدت عشرات الصحف والمجلات، داخل الوطن وخارجه، واستمر النضال بالكلمة رغم كل التحديات. واليوم، بعد مرور أكثر من 127 سنة، لا تزال “كوردستان” حاضرة في الوجدان الكوردي، لا فقط كعنوان صحفي، بل كرمز للهوية الثقافية والتمرد على النسيان.
الكورد، حيثما حلّوا، أثبتوا أن الثقافة لا تُقيد، وأن الفكر لا يُنفى. في مصر، برز الكورد في السلطة والثقافة، من صلاح الدين الأيوبي إلى محمد علي باشا. في فلسطين واليمن، ظهرت أحياء باسمهم. في سوريا والعراق وتركيا وإيران، ورغم محاولات القمع، ظلت الثقافة الكوردية تنبض، بالقلم، والفن، والأدب.
كان القلم الكوردي دومًا مقاومًا. قاوم سياسات التعريب والتتريك والتفريس، وواجه محاولات محو الذاكرة واللغة. ومع أن الكثير من الوثائق ضاعت، والكثير من الأقلام كُسرت، إلا أن الحقيقة التي لا تُمحى، أن للكورد يومًا وُلد فيه الحرف من رحم المعاناة، وأن ذلك اليوم لا يزال ينبض بالحياة كل عام.
22 نيسان أصبح اليوم الذي يحتفل فيه الكورد بيوم الصحافة الكوردية، ليس كذكرى عابرة، بل كيوم وطني ثقافي يُعيد التذكير بقوة الكلمة، وبشجاعة أوائل من حملوا القلم دفاعًا عن قوميتهم. هو يوم الوفاء لجريدة “كوردستان”، ولآل بدرخان، ولكل من سار على خطاهم.
وإحياء هذا اليوم لا يعني البكاء على الأطلال، بل النظر إلى الأمام، والانطلاق من روح تلك اللحظة التأسيسية نحو مستقبل أكثر وعيًا وانفتاحًا. هو دعوة للمثقفين والإعلاميين الكورد إلى استكمال المسيرة، وتطوير الخطاب الصحفي، وبناء إعلام كوردستاني حر وهادف، يتجاوز الشعارات إلى العمل المهني الجاد.
الصحافة الكوردية، التي وُلدت مهاجرة، اليوم عادت إلى أرضها، وتنتشر بلغتها الأم في كل الاتجاهات. ولكن التحديات لا تزال قائمة، والمهمة لم تكتمل. فكما قاومت بالأمس محاولات الإنكار، عليها اليوم أن تقاوم التشتت، والسطحية، والتبعية. عليها أن تحمي الحقيقة، وأن تزرع الأمل، وأن تعلي صوت الإنسان الكوردي في كل مكان.
فليكن يوم الصحافة الكوردية محطة تأمل وتجديد عهد. ولنتذكر دومًا أن الكلمة هي سلاح الشعوب الحرة، وأن جريدة “كوردستان” لم تكن ورقًا مطبوعًا، بل شعلة وعي لا تنطفئ.