في ” الطريق الى بغداد”

 

 

اعداد: عدنان رحمن

اصدار: 22- 4- 2025

 

              في القاهرة في العام 1999 صدرت الطبعة الثانية من مجموعة قصص بعنوان ( الطريق الى بغداد) لـــ ( بثينة الناصري)، وذلك عن دار عشتار للنشر- انكلترا، التي لديها مكتب تمثيلي في مصر- القاهرة، والتي كانت بدَورها هي مديرة الدار أي ( بثينة الناصري)، نورد من احدى القصص التي كانت بعنوان ( الطريق الى بغداد) ما يلي:

– ” كل هذه الحقائب؟.

هتف عامل المحطة وهو يضع الحقيبة السوداء الكبيرة فوق الحقائب الخمس الأخرى داخل السيارة. تفحصت بغضب المقبض المخلوع للحقيبة واشرت اليه:

– انظر ماذا فعلت؟.

تمتم بأن المقبض كان اضعف من ان يتحمل ثقل الحقيبة التي لا يدرى ان كانت تحوى قوالب من حديد.. ضحكت رغما عني وقلت موضحة ( بل كُتباً..) ونقدته اجرته. اخرج رجل ضخم يجلس بمحاذاتى زجاجة صغيرة من جيبه وعب منها وهو ينظر شذرا الى ولدين صغيرين يجريان وراء بعضهما عبر ممر السيارة.. وبين الفينة والأخرى يلوذ اصغرهما بحضن امه وهي شابة لم تنقطع عن حديث طويل مع زوجها. التفتت عجوز تجلس في مقدمة السيارة ورمقت الجميع بنظرة حكيمة. كانت هيئة العصّابة والفوطة التى تلف بها رأسهـا ووشم النقاط الزرق الثلاث على صدغها يشى بأنها من اهل الجنوب قالت وهي تلوح بـ ( قوري) فارغ

– سنشرب شايا طوال الطريق ان شاء الله معي الشاي والسكر والاكواب، لن نحتاج لسوى ماء ساخن نأخذه من المحطات.. وكان بودي اخدمكم بنفسي ولكن حركتي ضعيفة بسبب الروماتيزم.

ردد الجميع الله.. ( الله يشفيك يا حاجة)….. الله يسلمكم يا عيوني. و قطعت استرسالها صرخات اطلقها الولدان وهما يتصارعان على ارض السيارة. قال الرجل الذى بمحاذاتـــــــي ( كل هذه الضجة ولم نتحرك بعد وامامنا طريق طويل؟). هزت امرأة تجلس خلفه رأسها تؤمن على كلامه. وكانت تلك اول حركة تصدر عنها، فقد كانت تلتصق بالمقعد جامدة صامتة يحيط وجهها الشاحب شال اسود. قال والد الطفلين معتذرا ( سوف ينامان حالما تتحرك السيارة). نهض شاب كان يجلس الى جانب العجوز الجنوبية واقترب من الصبيين رافعا الجاثم فوق اخيه بحركة تهديد هازلة ثم انزله فى حجر امه. كان الشاب نحيفا ضامر الوجه ذكّرني بإبني عُمَر الذي لم أرَهُ منذ اربع سنوات. ازحت الستارة الصغيرة عن النافذة كان المساء يهبط بخفة على ارض المحطة. وكان ثمة مسافرين هنا وهناك ينتظرون او يتحركون حول حقائبهم بقلق. وكانت وجوههم مثل وجوه كل البشر في محطات السفر تعكس في آن واحد اللهفة والخوف والامل ونفاد الصبر وذلك الشعور الغامض بالفرح والحزن معا وشيئا أشبه بالضياع لقرب الانتقال من مكانٍ الى آخر.. من حالة الى اخرى. ابتدأت تلك الوجوه تبتعد الى الخلف اذ تحركت سيارتنا في طريقها الى خارج المحطة ارتميت على ظهر مقعدي وقلبي ينتفض بين ضلوعي وكأنهما انزاحا فجأة عن صدري، ابتسمت وانا اردد مع نفســــي ( قادمة إليكِ يا بغداد). ليل كانون يغلف عمّان.. انوار البيوت المتدرجة على الجبل ترتعش بهبات الريح والمطر الذى بدأ ينقر زجاج النافذة.. احكمت وضع الشال الصوفي حول كتفي. هل ينزل المطر في بغداد الآن؟. كانت شوارع مدينتي تغتسل وخضرة العشب تزداد دكنة وتعبق الارض المنداة برائحة نفاذة مرّة. روى لي صديق مصري، انه ذات مساء كان يتمشى في ضاحية من ضواحي القاهرة مع ابنته التي ولدت وعاشت بضع سنوات في بغداد. وفجأة توقفت البنت وصاحت ابى هل تشم؟. هذه رائحة بغداد. حتى لون سمائك يا بغداد وهي تحتضن البيوت الغافية على ضفتي النهر كان اجمل. ازداد وقع المطر ضراوة حتى بدا وكأنه يوشك ان يخترق زجاج النافذة. اسدلت الستارة وانزويت في مقعدي اتقاء تراءي وجه مَن أحبْ لي وهو يبتسم بعينين ساخرتين، الذي كان يسميني امرأة من مطر، والذي طالما مشينا تحت  المطر يداً بيد نذرع شارع ابي نواس او کورنيش الاعظمية.. يا الهي كم كنت احب المشي معك تحت المطر… في البلاد الغريبة حيث اعيش يهبط المطر غريبا فظا لا يعني سوى الوحل والبرد والبلل. ولكن المطر في بغداد كان شيئا آخر.. كان رحيما.. كان صديقا.. كانت حباته صافية مثل دموع الاطفال. وكان يحلو لي الكتابة فى ليالي كانون الممطرة فإنني امرأة شتائية في كانون عتيق ولدت.. ولكن كم كانون مضى منذ اوقدنا آخر شموع ميلادي معا.. عشرون؟. بعدها جاء كانون وراح كانون وغزا الشيب رأسينا وكبرنا بعيدين عن بعضنا. هل ينزل المطر فى بغداد الآن؟. اما زلت تذكرني كلما هطل المطر؟. انهم يقصفون بغداد. عاجلنى صوت أخي المرتجف القادم في منتصف ذلك الكانون عبر الهاتف من اقصى البلاد الغربية حيث يعيش، انهم يقصفون بغداد واغلق الخط. فزعت من السرير الى التليفزيون. كانت الشاشة سوداء. سماء مدينتي الحبيبة غارقة فى ظلام حالك تنيره ومضات و اشعاعات متقطعة متواصلة فأری مشاهد اعرفها… بيوتا صغيرة.. مأذن وقباب جوامع. ابني هناك كان اول ما تبادر الى رأسى المذهول.. عمر.. اين تُراك الآن؟. هل تلوذ بنخلة محروقة فى حديقة الدار ام ترتعش برداً وخوفا عند الجدار الباقي من بيتنا؟. ام تكون انكفأت على تراب بغداد قابضا عليه بأسنانك؟. ولكن عمر كان ساعة القصف يتفرج من النافذة كما علمت بعد شهور طويلة، حيث استلمت اول رسالة من بغداد، وكانت امينة اختي التي تحتمي بزاوية الغرفة محتضنة طفلها الوليد تزحف اليه بين حين وآخر لتشده من ذيل جلبابه متوسلة اليه.

– اسمع الكلام يا ابني.. ابتعد عن النافذة.. الله يهديك.

وحين يئست من عناده ضمت طفلها الى صدرها وانخرطت في بكاء متشنج.

– إسمع الكلام يا ابني.. دَعنا ننام.. الله يهديك.

اخترق صوت اجش رأسي.. كان الرجل الضخم الجالس بمحاذاتي يؤنب احد الولدين ثم كرع من الزجاجة الصغيرة قبل ان يخفيها في جيب سرواله. انقطع المطر منذ قليل.. كُنا قد خلفنا عمان وتلالها المتلألئة بالنور وراءنا. حولي كانت المرأة الشاحبة ما تزال تجلس منتصبة لا يطرف لها جفن.. سألتها لأخرجها من صمتها:

– متى نصل الحدود؟.

اجابت بلهجة موصلية: – امامنا خمس ساعات.

– الاخت من الموصل؟.

– أي نعم.

قدمت لها شيئا من الكعك الذى كنت اقضمه فرفضته وسألتها: – اذن هذه ليست زيارتك الأولى لعمّان؟.

قالت بحسم: – المرّة الثانية.

وكأنها قرأت ما يدور في ذهني فأردفت: – كنت هناك للعلاج.

قلت لأغيّر الموضوع: – لقد توقف المطر. كان الجو في عمان سينا طوال الاسبوع الماضي، واول امس سقط الثلج وغطى كل شيء.

ولُذنا بالصمت.. في جانب آخر من السيارة تواصل الحوار بين العجوز وجارها: – عندما جنت عمان كان الدولار بمئة وستين.

تدخل السائق قائلا: – نزل البارحة.. صار مئتين وعشرة.

قالت العجوز الجنوبية: الله يلطف بنا.. اشتريت والله السمك بمئتي دينار ماذا افعل؟. ابنتي تقيم مع زوجها في عمان و كتبت لي ( نفسي في الزبیدي یا امي).

سألتها: – بمئتين؟ الكيلو ام السمكة؟.

– الكيلو.. ويصل احيانا الى اكثر من ذلك.

– وهل حملت السمك من بغداد الى عمان كل هذه المسافة؟.

ضحكت العجوز وقالت: بل ابعد من ذلك.. من البصرة الى عمان، عندي ثلاجة سفر صغيرة ماذا افعل؟ز لا استطيع ان ارد طلب ابنتي والبنت لم تقصّر معي حملتني كل ما احتاجه والله… الدهن والدقيق والسكر والشاي واللبن حتى الصابون.

فتحت حقيبة يدى ولمست اللفافة مرت يدي عليها خشية ان تكون قد كسرت شمعة حمراء طويلة حملتها معي تحسبا ألا اجد مثلها في بغداد… سنكون معا في عيد میلادي هذا. سنوقد الشمعة وفى لهيبها المنتفض بوهج اللهفة سوف ننسى ما مرّ من سنوات.. وكأن زماننا لم يغادرناز هل ترانی احلم؟. احقا لم نتغير؟. ألم يكن لكل منا ذكريات جديدة يجهلها الآخر؟. يكفي انك كنت داخل تلك اللحظة الهائلة.. لحظة توقف فيها الزمن.. وحبس التاريخ انفاسه وتلكأ دجلة في جريانه وسكن الهواء.. لحظة اقشعر فيها بدني حين جاءني صوت أخي من بعيد انهم يقصفون بغداد. يا الهي كم تمنيت حينها ان تطول ذراعاي فتطويان المسافة الى بغداد. لاحتضن وطني الى صدري اهدهده مثل طفل.. تراءى لي وجهك تلك اللحظة كاد قلبي يتوقف.. هل هذه هي النهاية؟. اخذت اذرع الغرفة ذهابا وايابا مسجونة داخل جدران ضعفي وعجزي واحساسي بالذنب لوجودى خارج الهول. لم اجد سوى ان اردّد: نَجِهُم يا رب من هذا الكابوس يا رب.. دعني اراهم مرّة اخرى. وكنت على يقين من اني لن اعيش بعد ليلتي هذه لأرى صباح اليوم التالي”.

قد يعجبك ايضا