د. ابراهيم احمد سمو
ليس كل سياسي بالضرورة صانعَ فرق، ولا كل من امتلك سلطةً حمل معها وعيًا ووزنًا في القرار. الفارق الحقيقي بين السياسي العادي والسياسي المؤثر يكمن في عمق المعرفة، واتساع الأفق، وقوة البصيرة. وكل ذلك لا يُكتسب صدفة أو يُولد بالفطرة وحدها، بل يُبنى عبر مسيرة طويلة من القراءة الواعية والكتابة المسؤولة، لأنهما أداتان لا تُقدّران بثمن في صياغة الوعي وترسيخ الحكمة.
القراءة تُغني العقل، وتُهذّب النفس، وتفتح أمام السياسي أبوابًا من الفهم لا يمكن أن تفتحها الوقائع الجافة وحدها. أما الكتابة، فهي اختبار دائم للفكر، وتمرين على التعبير الواضح، وبناء الحجّة، وتحمّل مسؤولية الكلمة أمام الناس والتاريخ.
السياسي القارئ والكاتب لا ينجرف مع العواطف العابرة، ولا تغلبه اللحظة، لأنه يمتلك قدرة أوسع على رؤية الصورة الكاملة. هو يعرف من التاريخ أن القرارات الضعيفة كانت دومًا نتاج جهلٍ أو قصر نظر، وأن ما من أمة نهضت إلا حين امتلكت رجال دولة كانوا على قدر المسؤولية، لا فقط على مقعد القرار.
حين يقرأ السياسي، لا يتوقف عند سطور الكتب، بل يتعلّم من تجارب الأمم، ويستخلص العبر من نجاحات الساسة العظام، ويتفادى الأخطاء القاتلة التي كررها الجهلة عبر العصور. وحين يكتب، يختبر ذاته، ويراجع مواقفه، ويخاطب ضميره قبل أن يخاطب جمهوره، لأن الكتابة كاشفة، لا تحتمل المجاملة ولا التزييف.
السياسي الذي لا يقرأ، يفتقر إلى عمق الرؤية، ويبقى سجين اللحظة، يتخذ قراراته تحت ضغط الحدث، لا بميزان الوعي والبصيرة. أما الذي يقرأ ويكتب، فيمتلك زمام المبادرة، لأنه يرى ما وراء الأحداث، ويصوغ ما ينبغي أن يكون، لا فقط ما هو كائن.
في مجتمعاتنا، كثيرًا ما نربط السياسة بالمراوغة والدهاء، ونفصلها عن القيم والمعرفة. وهذا خطأ جوهري. فحين يُفصل القرار السياسي عن الوعي والثقافة، يتحوّل إلى مجرد أداة للمصالح الضيقة. أما حين يتّحد الوعي بالسلطة، فإن القرار يصبح أداة بناء لا وسيلة قهر.
ولعلّنا نتساءل: لماذا يخطئ كثير من السياسيين؟ السبب ببساطة، أن من لم يقرأ لا يعرف، ومن لم يكتب لم يختبر أفكاره. القراءة تُقلّل الأخطاء، لأنها توسّع المدارك، وتقدّم نماذج من الواقع والتاريخ. والكتابة تُنضج الرأي، لأنها تلزم الكاتب بتحمّل مسؤولية ما يعبّر عنه.
هذا لا يعني أن كل قارئ أو كاتب سياسي ناجح، لكن الأكيد أن غياب القراءة والكتابة من حياة السياسي تُضعف كثيرًا من قدرته على الصواب. فليس غريبًا أن نجد سياسيًا يدير دولة، لكنه يفتقر لأبسط مفاهيم الإدارة، لأنه لم يقرأ كتابًا في حياته، ولم يُحمّل نفسه عناء التفكير العميق أو التعبير الواضح.
في المقابل، هناك سياسيون صنعوا الفارق فقط لأنهم قرأوا وكتبوا. تأمل في شخصيات تاريخية تركت أثرًا في ضمير شعوبها، ستجد أنهم كانوا قرّاء نهمين، وكتّابًا محترفين، لا فقط قادة ميدانيين أو إداريين. كانت الكلمة جزءًا من مشروعهم، والفكر من أساس سلطتهم.
وليس المقصود بالثقافة هنا الترف أو التجمّل، بل تلك الثقافة العملية، التي تُترجم إلى سلوك، وتنعكس على القرار، وتُرى في تفاصيل الأداء اليومي. الثقافة التي تجعل السياسي أقرب إلى الناس، لأنه يُخاطب عقولهم لا غرائزهم، ويستنهض فيهم الأمل لا الخوف.
نحن لا نطالب أن يكون كل سياسي فيلسوفًا، ولا أن يكتب ديوان شعر أو رواية، بل أن يعي بأن القراءة والكتابة ليستا ترفًا، بل جزءًا من أدوات العمل السياسي الناجح. فكما يحتاج الجندي إلى سلاح، يحتاج السياسي إلى فكر، ولا فكر بلا قراءة ولا نضج بلا كتابة.
في واقعنا الكوردى والعربي بالذات ، تفتقر الحياة السياسية غالبًا إلى هذا النمط من السياسيين. فتكثر الأخطاء، وتتعثر المشاريع، لأن القرار يُصاغ بلا عمق، والخطاب يُلقى بلا مسؤولية. نحتاج إلى سياسيين قرّاء، وكتّاب، وأصحاب وعي، لأنهم فقط القادرون على صناعة الفارق في مجتمعات عطشى للنهضة والعدالة والكرامة.
لقد آن الأوان أن نغيّر مفهومنا عن “رجل الدولة”. لا يكفي أن يكون حاضرًا في المؤتمرات، أو بارعًا في الخطابات. رجل الدولة الحقيقي هو من يقرأ الواقع كما يقرأ الكتب، ويكتب المستقبل كما يكتب المقال، ويُدير شعبه كما يُدير فكره: بحكمة وعمق ومسؤولية.
وفي النهاية، تبقى القراءة والكتابة ليستا فقط أدوات للسياسي، بل معيارًا نحكم به على وعيه وقدرته على الصواب. فبالقراءة يعرف أكثر، وبالكتابة يخطئ أقل، وبالاثنتين معًا، يصنع الفارق… ويترك الأثر.