آناهيتا حمو
هل الذاكرة خَلاصٌ أم فخٌ لتداعيات ذواكر شمية، وحسّية، وذكريات تلازم الإنسان الكوردي؟ تساؤل يراود ريشتي، مستلهماً من تحليل عالم النفس برغسون ونظريات فرويد حول “اللاوعي” l’inconscient ». وهو تساؤل يتردد في أصداء لوحات كلود مونيه، التي ترسم الزمن كحالة متحولة لا يمكن القبض عليها.
لكن السؤال الأهم: هل الهوية سجن أم تحرر؟ وهل يمكن للذاكرة أن تكون طوق نجاة أم لعنة أبدية؟
بين الهوية والزمن: رحلة بروست في الذاكرة اللاإرادية
بعد مرور قرن على صدورها، لا تزال رواية “البحث عن الزمن المفقود “،لمارسيل بروست تُقرأ كمشروع فلسفي بإمتياز، أكثر من كونها مجرد عمل روائي. ففي الجزء الثاني من الملحمة، في ظلال ربيع الفتيات، نرى الراوي يتنقل بين حب جيلبرت وإنجذابه إلى مجموعة من الفتيات الشابات على شاطئ “بالبيك”، حيث تبرز شخصية ألبرتين كلغزٍ مؤلم. هذه العلاقة، المتأرجحة بين الهوس والغيرة، تكشف عن تناقض الحب: قدرته على خلق الذكريات وتدميرها في آنٍ واحد.
لكن الرواية لا تقف عند حدود العاطفة، بل تتوغل في بنية المجتمع نفسه. ففي صالونات باريس الأرستقراطية، حيث تتلاعب الشخصيات مثل “شارلوس” والدوقة “دي غيمانت” بالهويات، يتحول المجتمع إلى مسرح للأقنعة. وهنا يتجلى السؤال الفلسفي: من يختبئ خلف القناع؟ وهل الهوية بناء حقيقي أم مجرد واجهة تُفرض علينا؟
الذاكرة اللاإرادية: بين بروست وبرغسون
يعد مفهوم “الذاكرة اللاإرادية” أحد أعظم ابتكارات بروست الأدبية، مستلهمًا من فلسفة هنري برغسون حول الزمن الداخلي (durée)، حيث لا يُقاس الزمن بالساعات بل بتراكم التجارب. عندما تذوب قطعة مادلين في شاي الراوي، تنفجر، تستحضر الذاكرة، وتعيد بناء عالم الطفولة بدقة مذهلة. هل يمكن لرائحة أو طعم أن يعيد تشكيل الماضي؟ عند بروست، الذاكرة ليست استرجاعاً بسيطاً، بل إعادة خلق، حيث يعيش الإنسان الزمن مرتين: مرة عند وقوع الحدث، ومرة عند إستدعائه.
الهوية كمتاهة: مقارنة مع أدب الحداثة
لا يختلف بروست كثيراً عن كافكا، الذي جعل الهوية لعبة بيروقراطية مرعبة في رواية ” المحاكمة”، أو عن سارتر، الذي اعتبرها عبئاً في الوجود والعدم. بل يمكن مقارنته بناتالي ساروت، التي جعلت “تيارات الوعي “وسيلة لتمزيق الذات وكشف هشاشتها. فالهوية في أدب الحداثة ليست ثابتة، بل متغيرة، مراوغة، تحاصر الإنسان بدلاً من أن تمنحه الحرية.
ختاماً لا بدأن نقول بأن الهوية الكُردية بين الذاكرة والتحرر
بعد قرن من الزمان، لا تزال الأقنعة الأدبية التي وصفها بروست تحاكي واقعنا. ففي عصر الهويات الرقمية، حيث الفرد يخلق أكثر من هوية عبر وسائل التواصل، يظل التساؤل مطروحاً: هل نتحرر باإمتلاكنا عدة هويات، أم أننا نُحاصر بها أكثر؟ ربما يظل الفن هو الشاهد الوحيد على صراع الزمن والهشاشة الإنسانية، حيث يُخلّد الأدب ما يمحوه الزمن.
وبالنظر إلى الهوية الكُردية، نجد أن هذه الأسئلة تتخذ بُعداً أكثر تعقيداً. فالذاكرة الكُردية، المثقلة بالمنفى والإضطهاد والنضال من أجل الإعتراف، تشبه إلى حد بعيد تجربة بروست في استكشاف الزمن الضائع. الكُرد الذين يعيشون بين حدود متعددة، يصارعون بين الهوية المفروضة والهوية الحقيقية، بين الذاكرة الجمعية التي تحاول الحفاظ على الجذور، وكذلك على سياقات سياسية وإجتماعية تسعى لطمسها. في هذا السياق، يصبح السؤال كالتالي: هل يمكن للذاكرة الكُردية أن تكون خلاصَاً أم أنها مجرد إمتداد لسجن تاريخي؟ وهل يمكن للأدب الكُردي، كما فعل بروست، أن يعيد بناء هوية متجددة تتجاوز الماضي، دون أن تفقد جذورها؟