د. ابراهيم احمد سمو
في زمن تتسارع فيه الأحداث، وتتداخل فيه المصالح، لم تعد المؤتمرات والمنتديات الكبرى مجرد محافل رسمية تُلقى فيها الخطب وتُرفع فيها الشعارات، بل تحوّلت إلى نقاط تقاطع حقيقية بين الفكر والسياسة، بين المصالح المعلنة والأهداف الخفية، وبين ما يُقال أمام الكاميرات وما يُرسم في اللقاءات الجانبية.
طرح أحد المثقفين في منطقتنا سؤالاً جوهرياً وهو يتابع الزخم الإعلامي الكبير حول نشاطات الجامعة الأمريكية في السليمانية، وما سبقها من فعاليات في الجامعة الأمريكية بدهوك، وغيرها من الجامعات والمراكز الثقافية، سواء الحكومية أو الأهلية أو المستقلة: ما جدوى هذه الندوات واللقاءات، طالما أن واقعنا السياسي والاقتصادي لا يزال يعاني من الجمود والتكرار؟.
من حيث الشكل، قد يبدو السؤال منطقياً. فالمشهد العام يغصّ بالخطابات، والبيانات الختامية، والصور التذكارية، دون أن يلمس المواطن البسيط تحولاً مباشراً في حياته. لكن من حيث الجوهر، فالمسألة أعمق مما يبدو على السطح.
فالمؤتمرات ليست مجرد ساحات لعرض الأفكار؛ بل هي فضاءات تُختبر فيها التوازنات، وتُعقد من خلالها تفاهمات لا تُدوَّن على الورق أحياناً، لكنها تُترجم لاحقاً إلى قرارات تؤثر في مصائر الشعوب. وعلى هامش كل منتدى، وفي أروقة الفنادق وأماكن الإقامة، تُجرى لقاءات غير معلنة بين قادة دول، أو ممثلي أحزاب، أو مستثمرين محتملين، تُرسم من خلالها خطوط السياسة والتحالفات والمشاريع.
في كثير من الأحيان، ما يُقال من على المنابر أقل بكثير مما يُقال خلف الكواليس. فالكلمات العلنية تُصاغ بلغة دبلوماسية دقيقة، بينما تُقال الحقائق بصراحة في اللقاءات الجانبية. ومن هنا تنبع القيمة الحقيقية لمثل هذه اللقاءات، ليس فقط في مضمون الجلسات، بل في فرص التلاقي والحوار التي توفرها.
لقد تغيّر الزمن، وتغيرت معه قواعد اللعبة. فما كان يُعدّ “عاراً” في السابق، كالجلوس مع الخصم أو مصافحته، أصبح اليوم جزءاً من الدبلوماسية الذكية. لم تعد لغة “هذا عربي، وهذا أجنبي، وهذا كوردي، وهذا إسرائيلي” تحدد سياسات الدول، بقدر ما باتت المصالح المشتركة، تحت شعار “فيد واستفيد”، هي التي ترسم الخرائط وتحدد الاتجاهات.
ولا يمكن فهم هذا التحول من دون استحضار واقع الشعوب التي لا تزال تعيش بلا علم أو دولة.
فالكُرد، على سبيل المثال، باتوا يتمتعون اليوم بدرجة من الفيدرالية والسلطة اللامركزية في مناطقهم، وهي خطوة مهمة في مسار طويل يتطلب قدراً كبيراً من المرونة والبراغماتية، والتعامل مع الواقع بأدوات الحاضر لا بشعارات الماضي.
ليس المطلوب أن نعوّل على كل ندوة لتكون بوابة لحل شامل، لكن من الظلم أيضاً أن نغفل دور هذه المحافل في تحريك المياه الراكدة. فالأمم التي تحقق التقدم لا تفعل ذلك عبر الشعارات، بل حين تتوفر لديها أنظمة عادلة، وديمقراطية حقيقية، واقتصاد منفتح يستقطب الاستثمار ويضمن للفرد حياة كريمة.
وحين تتكامل هذه العناصر، يولد الاستقرار المجتمعي، وتزدهر ثقافة الحوار، ويُصبح النقاش الفكري والسياسي وسيلة للإصلاح لا مادة للترف. عندها تصبح المؤتمرات والندوات ليست فقط ضرورية، بل جزءاً أصيلاً من بنية المجتمع المتحضر.
إن المراقب المدقق يرى أن هذه المنتديات باتت جزءاً من معركة الوعي، وساحة اختبار حقيقية لمدى قدرة المجتمعات على تجاوز عقدها، والانفتاح على العالم بلغة المصالح لا العصبيات.
وما نراه اليوم من نشاط لافت في الجامعات الكوردستانية ليس عبثاً، بل مؤشراً على تطلّع هذه المؤسسات لأن تكون حاضنة للفكر وصانعة لجيل جديد من القادة والمثقفين.
الجدوى الحقيقية لهذه اللقاءات لا تُقاس بعدد الحضور أو بتكرار التوصيات، بل بمدى تفاعل المجتمع معها، وتحولها إلى أدوات فعل وليست مجرد مناسبات بروتوكولية. وهي مسؤولية الجميع، من المنظمين إلى الحضور، إلى الجمهور الذي يتابع من بعيد.
في النهاية، من أراد أن يبني دولة، عليه أن يبدأ بتغيير طريقة تفكيره. وأن يدرك أن الحوار، ولو كان شكلياً في بداياته، هو أول الطريق نحو التغيير الحقيقي.
ما يجري في أروقة الجامعات الكوردستانية، ولا سيما في السليمانية ودهوك، وأربيل العاصمة بالذات، لم يعد مجرد نشاط ثقافي أو أكاديمي تقليدي، بل بات فضاءً حيويًا لصياغة خطاب جديد يعكس تحولات الواقع السياسي والاجتماعي. وفي ظل هذا الحراك، تبرز الجامعة الأمريكية في دهوك والسليمانية كنموذج لفضاء مفتوح على الداخل والخارج، تتقاطع فيه المصالح، وتتفاعل فيه الأفكار، ويتسع فيه المجال لما يُقال علنًا وما يُرسم خلف الكواليس. وهنا تتضح الحاجة إلى قراءة أكثر عمقاً لهذه المنتديات، باعتبارها ليست فقط انعكاساً للواقع، بل أداة لتغييره أيضاً.