متابعة ـ التآخي
ما بين 2 و2.9 مليار شخص حول العالم لا يستطيعون تحمل تكاليف عيش حياة صحية، وبرغم أن هؤلاء الأفراد لا ينطبق عليهم التعريف التقليدي للفقر المدقع، إلا أنهم ما يزالون يواجهون صعوبة في الحصول على غذاء غني بالعناصر الغذائية المطلوبة لصحتهم على المدى الطويل.
تشير الأبحاث التي أجرتها جامعة جوتنجن في المانيا، إلى أن معظم المقاييس التقليدية تفتقد إلى نقطة رئيسة: فكثير من الناس يعيشون فوق عتبة “الفقر المدقع” النموذجية ولكنهم لا يستطيعون شراء ما يسميه الخبراء نظاما غذائيا صحيا أساسيا.
وأشرف على الدراسة جوناس شتيل، وهو باحث حاصل على درجة الدكتوراه في مجموعة أبحاث اقتصاديات التنمية بجامعة جوتنجن، الذي تعاون مع وكالة المساعدات الإنسانية “ميزيريور”، ونُشرت الدراسة في مجلة سياسة الغذاء .
الناس بحاجة إلى الفيتامينات والمعادن والبروتينات لتجنب الأمراض المرتبطة بالأنظمة الغذائية غير الصحية، ولا زالت العديد من مناقشات السياسات تركز على حدود دخل صارمة لا تشمل تكلفة الأطعمة المتنوعة.
يُقدّم هذا المنظور الأوسع نطاقا تعدادا مختلفا للفقر العالمي، فبحسب أحد الحسابات، يقع ما لا يقل عن 2.3 مليار شخص تحت خط الفقر الجديد الذي يأخذ في الاعتبار تنوع الغذاء وغيره من الضروريات، ويواجه جزء كبير من البشر مخاطر صحية لمجرد عدم قدرتهم على شراء الأطعمة المغذية.
ويجادل الباحثون بأن الأساليب الحالية لا تعكس أسعار الفواكه والخضراوات والبقوليات وغيرها من الأغذية الضرورية.
وتُظهر دراسات منظمة الأغذية والزراعة أن الأنظمة الغذائية الغنية بالعناصر الغذائية غالبا ما تكون أغلى من تكلفة المواد الغذائية الأساسية منخفضة الجودة وحدها، وتعني هذه الفجوة أن كثيرا من الأسر العاملة تعاني من نقص في الفيتامينات اليومية.
قد ينفق بعض سكان الدول الغنية مبالغ أقل على الضروريات اليومية، لكنهم ما يزالون قادرين على شراء وجبات متوازنة، فيما قد يتمكن آخرون في المناطق ذات الدخل المنخفض من الحصول على نشويات رخيصة، لكنهم لا يستطيعون إضافة البروتينات أو المنتجات الزراعية.
يمكن أن يؤدي هذا الخلل إلى الفارق بين تحقيق أهداف العناصر الغذائية الأساسية أو الافتقار إليها لسنوات.
يُعد هذا الخط مفيدا لإجراء مقارنات عالمية أبسط، ولكنه يتجاهل المتطلبات الغذائية التي تتجاوز استهلاك السعرات الحرارية الخام. وتشير النتائج الجديدة إلى أن الصحة يجب أن تكون عاملا أساسيا في تقويم الاحتياجات.
تكلفة الأنظمة الغذائية الصحية أعلى من أن يُغطيها رقم عالمي واحد، تتغير الأسعار باختلاف الموقع، وتوفر الغذاء، والقدرة الشرائية؛ كما تتفاوت أعباء الأمراض المرتبطة بالنظام الغذائي، مما يجعل معيارا واحدا أقل فعالية في عكس مستوى الرفاه الحقيقي.
يوضح شتيل “هناك مليارات الأشخاص الذين لا يُصنفون على أنهم فقراء للغاية وفقا للمعايير الحالية، ومع ذلك لا يستطيعون تحمل تكاليف الغذاء اللازم لتغذية كافية واحتياجاتهم الأساسية الأخرى، متجاهلين العواقب الصحية طويلة المدى لسوء التغذية”. وأضاف أنه ينبغي إعادة النظر في التدابير التقليدية لتوجيه الموارد بدقة أكبر.
وتمتد الآثار الصحية إلى ما هو أبعد من الفرد، فقد وجدت دراسة نُشرت في مجلة ذا لانسيت أن نقص التغذية والأمراض المرتبطة بالنظام الغذائي تُسهم في ارتفاع النفقات الطبية، وانخفاض إنتاجية العمل، وتأخر نمو الأطفال.
وتتحمل المجتمعات أعباء إضافية عندما لا تستطيع فئات كبيرة تحمل تكلفة الغذاء الصحي.
وغالبا ما تهدف مشاريع المساعدة الغذائية، وبرامج تعزيز المغذيات الدقيقة، والتحويلات النقدية إلى معالجة هذه المعضلات، ومع ذلك، قد تفشل الجهود إذا لم تتمكن خطوط الفقر من تحديد من يحتاجون إلى المساعدة في اتباع أنظمة غذائية صحية.
وتُسلّط الدراسة نفسها الضوء على أهمية تكلفة تلبية الاحتياجات الأساسية غير الغذائية؛ فالناس بهم حاجة إلى أكثر من مجرد الغذاء، فهم يحتاجون أيضا إلى السكن والكهرباء ورسوم المدارس والرعاية الصحية.
وينبغي لمعيار الفقر الجديد أن يأخذ في الاعتبار الغذاء والاحتياجات الأساسية الأخرى من أجل إعطاء صورة أكثر دقة عن الحرمان.
وإذا كان دخل الأسرة لا يغطي سوى السعرات الحرارية من المواد الغذائية الأساسية الرخيصة، فقد تعاني من سوء التغذية وتكافح لدفع تكاليف الدواء أو المواصلات، هذا النقص يضر بالإنتاجية وقد يحصر الأجيال القادمة في محنة.
في كثير من الأحيان، يعتمد صناع السياسات على خطوط الفقر الدولية التقليدية للتخطيط للدعم الاجتماعي.
تشير نتائج الباحثين إلى أن مليارات الأشخاص ما زالوا مُهمَلين لأن دخلهم يتجاوز الحدود الأساسية القديمة.
بدأت بعض الحكومات بالفعل بتعديل حساباتها، ويأمل الخبراء أن تحذو حذوها حكومات أخرى، لا سيما في المناطق التي يستمر فيها سوء التغذية برغم النمو الاقتصادي المعتدل.
ومن شأن تغيير مسار الحوار أن يُسهم في تحفيز استثمارات جديدة في الإنتاج الزراعي، وكفاءة السوق، وشبكات الأمان.
وترتبط التغذية المتوازنة بتقوية جهاز المناعة، وتحسين وظائف الدماغ، وتحسين الأداء الدراسي للأطفال، كما تزداد إنتاجية العمال، وتنخفض نفقات الرعاية الصحية في كثير من الأحيان.
إن إدراك التكلفة الحقيقية لهذه الأنظمة الغذائية يمكن أن يوجه الحكومات والجمعيات الخيرية والجهات المانحة نحو حلول أكثر تأثيرا.
وقد يعمل الشخص في عدة وظائف، ومع ذلك يظل يعاني من انعدام الأمن الغذائي إذا كانت أسعار المنتجات الصحية باهظة. هذا الواقع يستدعي سياسات مبتكرة، مثل دعم الأغذية الغنية بالعناصر الغذائية أو تقديم دعم مالي مباشر للأسر ذات الدخل المحدود.
يقول الخبراء إن تحديث مقاييس الفقر تشمل تكلفة نظام غذائي متوازن يتماشى مع حق الإنسان في الحصول على غذاء كافٍ، وان التركيز على مبلغ يومي واحد فقط لا يُغطي الفجوة الحقيقية التي تعيق التمتع بصحة أفضل وحياة أكثر ثراء.
يمكن للحكومات ومنظمات الإغاثة استغلال هذه المعرفة للدفع باتجاه سياسات سوقية تُخفّض أسعار المواد الغذائية الأساسية، أو تُعزّز الإنتاج المحلي، أو تُوفّر برامج دخل مباشر، ويمكن أن تتحوّل مقاييس الرفاه الاقتصادي إلى ما يتجاوز سلة غذائية محدودة.