بواكير الوعي الانساني عند البروفيسور مزهر الخفاجي

 

 

اعداد: عدنان رحمن

اصدار: 15/ 4 / 2025

 

           صدر للبروفيسور مزهر الخفاجي كتاب بعنوان ( بواكير الوعي بالوجود- أصل الأفكار في الحضارات الكبرى) عن وكالة الاهرام للتوزيع- مؤسسة الاهرام- شارع الجلاء- القاهرة- مصر الطبعة الاولى في العام 2024، وقد ورد في جزء منه:

– “ خلق الكون والإنسان في الذهنية العراقية: كانت قضية اصل الكون ونظام سَيره قد شغلت بال العراقي القديم وأخذت حيزاً من تفكيره، وهم مقتنعون بأن العالم من حولهم لم تكن فيه علة وجود بذاته، بل كان خاضعا كليا لقوى عليا خلقته، وهي تحكم اولا لفائدتها. وأن فكرته او فلسفته هذه للكون ( أي العراقي) ليست فلسفة بدائية كما يقول ( كريمر)، إذ ان هناك اسباب وجيهة تحملنا على الاعتقاد بان العراقيين القدماء قد وصلوا إلى آراء وتصورات في ميدان ما وراء الطبيعيات والآلهيات. تلك الأفكار صارت مقدمات لاهوتية يهتدي بها جميع الشرق، وقد تحددت هذه النماذج باتجاهات هي:

أولاً- أصل الكون.

ثانياً- فكرة خلق الكون العراقية وتأثيرها على فكر الحضارات الاخرى.

ثالثاً- خلق الإنسان.

رابعاً: أساطير نشوء الكون العراقية.

خامساً: قصة خلق الإنسان الأكدية.

سادساً: إسطورة الخلق البابلي.

أولاً: أصل الكون: إن فلسفة نشوء الكون عند السومريين والبابليين ( والعراقيين بشكل عام) ليست ضرباً من الآراء البدائية مهما بلغ قدمها، ذلك لانها تمثل المدارك الأولى للفكر العراقي القديم، وتعبر عن نضوج آراءه وتأملاته في ضوء الطبيعة، وفي ضوء خصائص وجود هذا الكون. وقد تجلّت في ذهنية العراقي القديم فكرة نشوء الكون أول مرة، في تصور أولي مخيالي كما يلي: – (( في البدء كان البحر، الذي سمّي بالسرمدية والأبدية، وهكذا كان البحر الاول، هو السبب في وجود السماء والأرض متحدين، وهما عنصرين صلبين. فكان ( نَمو- هو البحر الاول). وإن الإله نَمو ولدت الإله الذكر، أي الإله ( آنو)، التي هي السماء، والإله ( كي)، التي هي الأرض. ونتيجة اتصال ( آن- كي) ولد إله الهواء ( انليل)، ونتيجة احساسه بالظلمة الكالحة، ولد الآلهة انليل، آلهة القمر ( ننا). كما ان ننا بدوره ولد ( اوتو) آلهة الشمس، الذي اصبح اكثر لمعاناً، وباتحاد أنليل مع أمّه ( كي) ولدت الخضرة وكل الموجودات الاخرى من الخضراوات والحيوانات)).

ورؤيا الخلق واضحة في الرواية البابلية، فانها تتشكل ايضا من كون الكَون في الاصل بحرا، ولم يكن في الوجود مسكناً مقدس ولا بيت للآلهة، والخليقة كانت من عمل الإله ( مردوخ). وبدأ الخلق في ( اريدو) ثم في ( بابل). ومن هذا يتضح ان ( مردوخ) خلقه الـــ ( انونانكي). وتتشابه هذه القصة البابلية عن الخلق مع القصة السومرية ( أينوما- ايلش).

ثانياً: فكرة خلق الكون العراقية وتأثيرها على فكر الحضارات الأخرى: ان فكرة خلق الكون كانت قد تسربت الى كثير من افكار وفلسفات في الحضارات الاخرى، وكانت بحق ( ثيمة- أو فكرة) التكوين الأولى، او الخلق تتوالد من قصة الخلق العراقية. هذا ما أكدته الكثير من الدراسات والبحوث المقارنة، كما هو ظاهر عند الشعوب في أدناه:

عندَ المصريين: إنّ الأساطير المصرية تعتقد ان ( رع) هو أول إله يخرج من المياه الأول، وهو الذي انجب فيما بعد بقية الآلهة، وهو يقابل ( نَمو) في قصة الخليقة العراقية، ويعكس مقدار تأثيرها على فكرة الخلق المصرية، التي أساسها كان البحر الأول وأصله الماء.

 

 

عندَ الاغريق: ونجد التأثير واضحاً في وجود ( الاقيانوس)، الذي كان يجسد الحياة الاولى، او الإله البدائي الذي نشأ منه الكون، وكلها نجدها واضحة التأثير في كتابات ( هسيود)، الكاتب اليوناني المولود في القرن الثامن ق. م، الذي تحدث عن الخلق اليوناني، والذي كان ( العماء) و ( جيا)= الأرض بواسطة الايروس= الحب والقوة المولودة، اللذان ولدا الاثير والانهار، فكانت منهما جبال الأرض والسماء والمقترنات مع بعضهما فوق الاقيانوس المحيط، وكانـــت ( التنتيان) الذي قذف بهم ( اورانوس- إله السماء) الى الظلام لمعاقبتهم على سوء سلوكهم، فحرضتهم ضد ( اوراس). وتنتهي المعركة بانتصار ( زيوس) الذي مارس دَورا مقاربا لدَور ( مردوخ) البابلي. وقد وصلت اشارات عديدة تؤكد فرضية انتقال قصة الخلق عن طريق الكاهن البابلي ( بيروسوس) الكاهن البابلي في فترة متأخرة خلال النصف الاول من القرن الثالث قبل المـيلاد، و ( داماسكيوس الدمشقي) حوالي 480 ق. م.

عندَ الرومان: وتقترب فكرة الخلق والتكوين الكوني ايضا مع الفكرة اليونانية، وترتبط بجذرها العراقي المعروف، والفكرة تفترض ( المحيط)، وقد عــمل ( هوميروس) على منح ( المحيط وثيسيس) دَورا كبيرا في ظهور الأشياء، باعتبارهما أبَوَي الموجودات القديمة، ويقفان وجها لوجه أمام ( أبسو) و ( تيامت) في وادي الرافدين، كما هو حال إله الأرض ( ايا) في العراق، الذي يظهر باسم ( جايا) كآلهة للارض في اليونان.

عندَ العبرانيين: نجد فكرة خلق الإنسان تتردد ايضا عند العبرانيين، ففي ( سِفر التكوين) يظهر الشكل الاول كما في قصة الخلق السومري والبابلي ( فعندهم كانت الأرض خربة وخالية، وروح الرب يرف فوق وجه الماء). كما نجد ذلك يتجلى في القرآن الكريم بنفس المفهوم ( هو الذي خلق السموات والأرض في ستة ايام وكان عرشه على الماء). وقال تعالى: ( وجعلنا من الماء كل شيء حي). ولا يقف تأثير فكرة الخلق العراقية السومرية والبابلية عند حدود التأثير في حضارات الشرق، لاننا نعتقد ان تأثيرها امتد الى الكثير من الشعوب البدائية ايضا في ( نيوز لاند) و ( تاهيتي) و ( جزر كوك) كما يرويها بعض سكانها. والذي لاحظناه من خلال الاستعراض الموجز، ان هناك اشارات تشير الى احتمالية اكيدة وجديرة بالاهتمام وهي:

خلق الكون: ” ان التصورات والقصص الاسطورية السومرية وبفضل محتواها واصالتها التاريخية كانت قد تغلغلت الى جميع ارجاء الشرق الادنى”. هنا يتفق هذا الرأي مع الآراء التي تقول ان فكرة الخلق العراقية القديمة ربما كانت هي الفكرة المركزية الأولى في العقل البشري وهي التي أثرّت في الكثير من هذه الافكار المطروحة، لانها تفترض من انفجارا شديدا بدائيا قد حدث في الازمان السحيقة، التي نشأ عنها تبعثر الاجرام السماوية في الفراغ وابتعادها عن نقطة الافق، فالأرض… كوكب قد انفصل عن مكانٍ ما. والافتراض الاسطوري العراقي يقترب كثيرا من هذه النظرية الحديثة في قصة الخلق. أما فكرة وجود الميلاد المائي ربما كانت انعكاس لذكرى كامنة في لا شعور الإنسان عن حالة الجنين في رحم الام، حيث كان محاطا بالماء من جميع الجهات، وانبثاقه منها، ربما جسّدَها كثيرا في افكاره عن الخلق الاولى. وبعد ما الذي يمكن ان نستقيه من فكرة التكوين او الخلق للعالم المعروفة عند السومريين، الذي كان باسم ( الاينوما أيلش): ” عندما في الأعالي لم يكن هناك سماء…… وفي الأسفل لم يكن هناك أرض”. يعتقد الباحث انها الفكرة الاولى عن الخلق، ثم تبعتها الافكار او الأساطير الاخرى، وهي ارادت ان تؤكد على ما يلي: – ان فكرة الوجود لم تكن عفوية في عملية الخلق، بل ان هناك خالق، أي علّة للوجود، وهي فكرة عراقية. ( كما عرفنا في بداية المبحث). – الاتفاق على فكرة البدء الكوني كان بدءا مائيا، وهو الخيط الذي تشترك فيه كل فلسفات الخلق التي ذكرت سابقا. – التأكيد على فكرة الصراع الداخلي، الذي كان سببه الصراع بين قيم الخير والشر، او ربما سببه الرغبة للولادة، اي ان الصراع كان توليدا كما عرفنا سابقا. – ان فكرة الخلق كانت تؤكد على الخصب، كونه سر بقاء الحياة، وسر ديمومتها، والفكرة العراقية في قصة الخليقة اتضحت ايضا في كثير من الأساطير المصرية والاغريقية والعبرانية…… وغيرها من الفلسفات الاخرى. ان هذه الافكار التي تصل في تاريخها الى حوالي الالف الثالث قبل الميلاد تقدم افكارا دينية ومفاهيم روحية تركت في العالم الحديث اثرا لا يمكن محوه ابدا. اللتان كانتا تنطويان على إيمان راسخ وقوي، بحيث انهما اصبحتا العقيدة والمبدأ الأساس في اغلب اقطار الشرق الادنى القديم.

ثالثاً: خلق الإنسان: كانت فكرة الإنسان العراقي القديم عن خلق الإنسان تُعد بحق هي اول فكرة او إسطورة خَطَتهما يد الإنسان عن هذا الموضوع، وعلى منوالها جرت أساطير العالم في المناطق المجاورة للعراق، التي استقت منها عناصرها الأساسية، خصوصا فكرة خلق الإنسان من الطين، وفكرة تصوير الإنسان على صورة الآلهة: ” أن الكائنات التي ارتأيت خلقها، تنظر للوجود ……. ولسوف تعلق عليها صورة الإله ………….. اخرجي حفنة طين، من فوق مياه الاعماق…………. وسيقوم الصنّاع المهرة بتكثيف الطين وعجنه”. وقد تسربت العناصر الرئيسة لهذه الإسطورة الى معظم أساطير الأقوام والحضارات المجاورة، وإذا تتبعنا موضوعة الخلق العراقية للانسان، فاننا لا بد ان نقف أمام خصائص الفكر الاسطوري العراقي، الذي صورته لنا عقائده الدينية وأساطيره وملامحه، التي كانت تكمن في الخطوات الآلهية التالية: ” أن الإنسان خُلِقَ من طين حسب الرواية السومرية. ومن طين ممزوج بدم احد الآلهة حسب الرواية البابلية”. وأن هذا الإنسان خلق كي ( يعبد الآلهة)، وان ( الموت) مصير كل انسان، ولا يخلد في هذا الكون السرمدي سوى الآلهة، وانه هو القدر المحتوم. ونحن نتحدث عن التأثير العراقي، لا بد ان نقول انها تسربت لليهود ففي ( سفر التكوين) نجد: ” إله العبرانيين يهو او ياهو، يقوم بخلق الإنسان من طين بعد انتهائه من خلق العالم، ويجعله على شاكلته وجبل الإله ( اوم) كان بقايا تراب من الأرض ونفخ في نسمة الحياة فصار آدم نفساً حيا”. وفي الأساطير المصرية نجد ترديدا لنفس الفكرة، وكذلك في الأساطير الاغريقية التي تعود لـــ ( بيرو قيوس) عن خلق الإنسان، فقد قام هذا الاخير بخلق الإنسان من تراب وماء، وعندما استوى الإنسان قائما نفخت فيه الآلهة ( اثينا) الروح. ثم يظهر التأثير واضحاً في الأساطير البدائية الاخرى مثل، الافريقية والفلبينية، إذ تقول بعض هذه الأساطير: ” ان الخالق اخذ حفنة من طين وشكلها على هيئة انسان، ثم تركها في بركة مليئة بماء البحر مدة سبعة ايام، وفي اليوم الثامن رفعان فكانت بشرا”. واخيراً بيّن القرآن الكريم خلق الإنسان من تراب في اكثر من موضع، إذ يقول تعالى: ( خلقنا الإنسان من صلصال كالفخار، وخلقنا الجان من مارج من نار). و: ( انا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين)”.

قد يعجبك ايضا