بقلم : د ابراهيم احمد سمو
في مثل هذه الأيام، قبل 37 عامًا، شهدت منطقة گرميان وجمجمال واحدة من أبشع الجرائم في تاريخ الإنسانية، عندما استُبيحت الأرض، واُجتثّ الإنسان من جذوره تحت راية “الأنفال”. ذكرى ثقيلة لا تزال تنبض في ذاكرة الأجيال، تُنذرنا بأن الصمت أمام الظلم جريمة أخرى. إنها ليست مجرد ذكرى… بل نداء دائم للعدالة، ولصون الكرامة، ولحفظ الحقيقة من النسيان
حين يُكتب تاريخ المآسي الكبرى التي حلت بالبشرية في العصر الحديث، لا يمكن تجاوز جريمة الأنفال، تلك الحملة الشرسة التي شنّها النظام العراقي البائد ضد الشعب الكُوردي أواخر ثمانينيات القرن الماضي، والتي تُعدّ واحدة من أفظع عمليات الإبادة الجماعية في منطقة الشرق الأوسط، وأكثرها دمويةً وتنظيماً.
بدأت الكارثة في فبراير من عام 1988، بالتزامن مع نهاية الحرب العراقية الإيرانية، واستمرت حتى سبتمبر من العام ذاته، وكانت تهدف إلى محو الوجود الكوردي في منطقة الحكم الذاتي انذاك (اقليم كوردستان – حالياً ) لا سيما في القرى والمناطق الريفية التي كانت تُعتبر حاضنة اجتماعية وسياسية للقوى الكوردية المعارضة. وقد خُطّط لهذه الحملة ونُفذت بإشراف مباشر من علي حسن المجيد، أحد أركان النظام، والذي لُقّب لاحقًا بـ”علي الكيماوي” نتيجة استخدامه الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين.
سُميت الحملة بـ”الأنفال” في استغلال صارخ للمعاني الدينية، حيث استُخدمت سورة الأنفال من القرآن الكريم كمبرر ديني زائف، لتبرير نهب الممتلكات، وسلب الأرواح، وهدم القرى، وتجريف الأرض. اعتُبر كل شيء – من البشر إلى الحجر – غنيمة حرب، في رؤية عنصرية قامت على تجريد الإنسان الكوردي من إنسانيته، وتحويله إلى هدف مشروع للتصفية الجسدية والإبادة.
وقد شملت عمليات الأنفال ثماني مراحل عسكرية منظمة، جرى خلالها قصف آلاف القرى الكوردية بالأسلحة الثقيلة والغازات السامة، وارتُكبت فيها مجازر مروعة، من بينها قصف مدينة حلبجة بالأسلحة الكيميائية، حيث راح ضحية ذلك الهجوم أكثر من خمسة آلاف مدني، معظمهم من النساء والأطفال. كما شهدت الحملة إعدامات جماعية ودفنًا للأحياء، وتهجيرًا قسريًا للسكان، وتدميرًا ممنهجًا للبنية التحتية في المناطق الكوردية.
تشير الإحصاءات الموثوقة إلى أن عدد ضحايا حملة الأنفال بلغ ما لا يقل عن 182 ألف شخص، تم اقتياد معظمهم إلى أماكن مجهولة قبل أن يُعدموا جماعيًا، وتُوارى جثثهم في مقابر جماعية ما زالت تُكتشف بين فترة وأخرى في صحارى الجنوب العراقي. كما دُمرت أكثر من 4000 قرية كوردية بشكل كامل، إلى جانب مساجد ومدارس ومزارع ومستشفيات، ما أدى إلى كارثة بيئية واجتماعية لا تزال آثارها حاضرة حتى اليوم.
في نهاية سبتمبر 1988، أُعلن عن توقف الحملة رسميًا، لكن آثارها لم تتوقف عند حدود القتل والدمار؛ إذ زرعت الخوف والانكسار في نفوس الأحياء، وخلّفت جرحًا مفتوحًا في الذاكرة الجماعية للكورد، جرحًا لم تندمل آثاره رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على ارتكاب الجريمة.
بعد سقوط النظام العراقي في عام 2003، كُشف النقاب عن عشرات المقابر الجماعية، وتم التعرف على بعض الضحايا عبر فحوص الحمض النووي. ورغم أن المحكمة الجنائية العليا في العراق أصدرت أحكامًا بالإعدام بحق عدد من المسؤولين عن الحملة، وعلى رأسهم علي حسن المجيد، إلا أن العدالة لا تزال ناقصة. فالكثير من أهالي الضحايا ما زالوا يبحثون عن رفات أحبّتهم، وعن اعتراف دولي حاسم يُنصف الضحايا ويُخلّد ذاكرتهم، ويضمن عدم تكرار تلك المأساة.
لقد اعترفت العديد من البرلمانات والمنظمات الحقوقية العالمية بجريمة الأنفال بوصفها إبادة جماعية مكتملة الأركان (Genocide)، لكنها بقيت، في أغلب الأحيان، حبيسة التقارير والتوصيات، دون أن تتحول إلى خطوات عملية تفرض العدالة، أو تعيد شيئًا من الحقوق المهدورة.
الأنفال ليست مجرد صفحة مظلمة في التاريخ، بل هي جرح مفتوح في ضمير الإنسانية، ونداءٌ دائمٌ لضمير العالم كي لا يسمح بتكرار مثل هذه الجرائم، لا في كوردستان ولا في أي بقعة من بقاع الأرض. كما أنها دعوة ملحة لتوثيق الذاكرة الجمعية الكوردية، ولتضمينها في المناهج والمؤسسات والإعلام، كي تبقى الشهادة حاضرة، والأمل بالإنصاف قائمًا.
إن كل قرية أُحرقت، وكل نهر تلوث، وكل شجرة اقتُلعت، وكل روح أُزهقت في تلك الحملة، لا تزال تطالب بصوت خفي – لكنه جلي – بأن العدالة ليست خيارًا، بل ضرورة إنسانية وتاريخية لا بد من تحقيقها.