ماهين شيخاني
لم يكن خبر الشرطة بالاستدعاء عادياً بالنسبة له، بل كان بشرى انتظرها منذ عقد كامل من الانتظار والخذلان. تسلم البلاغ، وعيناه تلمعان ببريق حلم قديم طالما رآه يتهاوى بين أنقاض الواقع. لقد ظهرت نتائج المسابقة، وكان الأول بلا منازع بين رفاقه. حمل أوراقه التي أعدها بعناية، وتوجه بخطوات تشبه نبضات قلبه إلى المكان الذي طالما انتظره، وإن كان بعيدًا عن مدينته وأهله.
دخل القرية في صباح ناعس من الطريق الشمالي. كانت الشمس تنسل خيوطها الذهبية بخجل فوق تلال القرية الهادئة، وهفهفة أوراق الشجر تحرك الهواء كأنها تهمس بقدومه. وقف للحظة على مشارفها، يستنشق نسيمها العليل، عله يغسل عنه تعب السنين. نظرت عيناه إلى الخضرة التي تحيط بكل دار، والمياه المنسابة في جداول الري كأنها موسيقى خفيفة تدغدغ روحه العطشى للحياة.
سأل أول عابر صادفه عن موقع الدائرة الحكومية التي عُين فيها. كانت خطواته لاهثة، وحماسه أكبر من أن يخفيه. حين دخل إلى الدائرة، كانت هيبته البادية على ملامحه تنطق قبل أن يتكلم؛ رجل تظهر سماحته في وجهه، ونباهته في عينيه. استقبله الزملاء بحفاوة وود، وعرفوا فيه منذ البداية شابًا يحمل أكثر من مجرد أوراق توظيف: كان يحمل قلباً مفعماً بالأمل ورغبة لا تنطفئ بالعمل والعطاء.
أخلص في عمله، رغم أن الوظيفة لم تكن مما تمناه. كان يحلم أن يصبح حقوقياً ناجحاً، أن يترافع في قاعات المحاكم، وأن يقاتل بالكلمة عن المظلومين. لكن الظروف السياسية القاسية أجهضت حلمه حين حُرم من دخول الجامعة، وقذفته الحكومة إلى وظيفة أخرى، في مكان ناءٍ بعيد عن مدينته. ومع ذلك، لم يسمح لخيبة أمله أن تلوث روحه. أضفى نشاطاً وحيوية على الدائرة، وصار مثالاً يُحتذى به.
مرت الأيام، وذات يوم من أيام الصيف اللاهب، وصلتهم تعليمات من المديرية بالتحرك خارج القرية لمعاينة كابلات الكهرباء التي تضررت بفعل بعض العابثين. ذهب مع زملائه، وهو لا يخفي حماسته لمشاركة الجميع بكل ما يستطيع، رغم حرارة الشمس التي بدت كأنها تصهر الأرض تحت أقدامهم.
وصلوا إلى أطراف القرية حيث كان الكابل الكبير ممدداً عبر الطريق، وحدود الأمان موضوعة بعناية، تحذر العابرين. وقفوا جميعاً يراقبون بحذر سيارات النقل الثقيل التي تمر من بعيد، وأخذوا يعملون بانتباه.
وفي غفلة من الزمن، جاءت الشاحنة.
كانت ضخمة، وحركتها متهورة، كأنها لا ترى تحذيراً ولا بشراً. سائقها بدا أعمى البصيرة لا البصر، اندفع بجنون، قافزاً فوق كل إشارات التحذير. في ثوانٍ معدودة، فقد السيطرة على الشاحنة. ضرب أحد أعمدة الكهرباء، وجذب الكابل الممدد بعنف لا يرحم.
تبعثرت أجسادهم كالعصافير المذعورة، بعضهم سقط أرضاً وبعضهم ركض بلا هدى، لكن العاصفة كانت أسرع. وعندما التفتوا إلى زميلهم الجديد، تجمدت دماؤهم.
كان الكابل قد التفَّ على ساقه بقوة شيطانية، ورفعه في الهواء كالدمية. جسده تدلى من ارتفاع، يصرخ بألم لا تحتمله القلوب. في لحظة مروعة، بُترت ساقه بفعل الشد المفاجئ، وسقط أرضاً ضارباً رأسه بقوة.
ركضوا إليه، يصرخون باسمه، يحاولون أن يتداركوا الكارثة. لكن حين وصلوا، كان كل شيء قد انتهى. كانت أنفاسه الأخيرة قد لفظت، وعيناه تحدقان في السماء كأنهما تبحثان عن حلمه الضائع في مكان آخر… بعيد جداً عن هذه الأرض.
ذلك اليوم، انكسر حلم آخر، بصمت موجع لا يترك خلفه سوى الحسرة.