د. ابراهيم احمد سموا
وسط ضجيج المشهد السياسي العراقي، يحتدم الحديث عن الانتخابات خلف أبواب الأحزاب، بينما يغلي الشارع العراقي العربي بالتصريحات والمواقف، وكأن البلاد على شفا تحوّلات كبرى تتجاوز مجرد استحقاق انتخابي. الأجواء السياسية مشحونة، لا سيما في ظل انقسام القوى، وتشتّت التوافقات القديمة، وبروز تشكيلات جديدة لا يبدو أنها ستعيد إنتاج ما مضى، بل تؤسس لمرحلة مختلفة بالكامل.
التحذيرات تتصاعد من القوى الكبيرة التي تمسك بخيوط السلطة، وأبرزها “دولة القانون” بقيادة نوري المالكي، ومواقف مقتدى الصدر، الذي خرج مجددًا ليعلن بوضوح أن البلاد على أعتاب سيناريوهات خطيرة، محذرًا من انقسامات محتملة في حال عدم إجراء الانتخابات في موعدها. حديثه لم يكن سياسيًا تقليديًا، بل حمل نبرة تحذيرية عالية، مفادها أن العراق مهدد بالتقسيم، لا إلى ثلاث مناطق كما كان يُخشى في السابق، بل إلى أربع وربما خمس، في ظل انهيار التوافقات الوطنية.
أما إقليم كوردستان ، فرغم كل التحديات، يبدو أكثر تماسكًا مقارنة بالمناطق الأخرى، محافظًا على استقراره وسط العاصفة التي تضرب البلاد. الإقليم يتابع عن كثب ما يدور في بغداد والمحافظات الجنوبية والوسطى، مدركًا أن أي خلل هناك ستكون له ارتداداته على الجميع، ولكن الكورد يسيرون ضمن رؤية ثابتة، عنوانها الحفاظ على المكتسبات والاستعداد لكافة السيناريوهات.
وفي الخلفية، تتعمق المخاوف من المشهد الدولي المضطرب، خصوصًا مع تصاعد التوتر بين الولايات المتحدة والصين.
العراق، كغيره من دول العالم، لم يعد قادرًا على فهم المسار الذي تقوده واشنطن، خاصة في ظل عودة الخطاب الترامبي الصريح، الذي يعتبر السياسة مجرد “بيزنس”، يقوم على مبدأ المقايضة: “أعطونا سلعنا، نمنحكم سلعكم”، دون اعتبار للقيم أو المبادئ.
الإدارة الأمريكية، سواء بعودة ترامب أو غيره، تنظر إلى العراق من زاوية المصالح، وما يشهده من تراجع اقتصادي وأمني يجعله ساحة اختبار جديدة. في المقابل، تُمارَس ضغوط هائلة على طهران لتفكيك ترسانتها النووية دون قيد أو شرط، والتخلي عن مشروعها الثوري، ما يضع إيران أمام مفترق طرق مصيري: إما القبول بشروط مهينة، أو مواجهة عزلة دولية كاملة قد تتبعها ضربات موجعة.
التحولات السريعة في المنطقة لم تعد تُدار من وراء الكواليس، بل باتت تُعلن على الملأ. ما كان يُخطط له في الخفاء بالأمس، يُناقش اليوم في المؤتمرات والندوات وعلى شاشات التلفزة. وحتى دول الإقليم، وعلى رأسها السعودية وتركيا، بدأت بإعادة التموضع، ورفع الغبار عن علاقتها بالمكون السنّي في العراق، بعد سنوات من التهميش والتراجع، مدفوعة بالتغييرات في سوريا، والانكشاف الكبير للنفوذ الإيراني في العراق ولبنان وسوريا وغزة.
العين الأمريكية تتركز حاليًا على الجنوب العراقي، حيث تتصاعد الدعوات لنزع سلاح الفصائل المرتبطة بإيران، على غرار ما حدث في لبنان وغزة و اليمن هذا المسار، إن تم، قد يُحدث زلزالًا في بنية الدولة العراقية، التي تبدو الآن أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الانسجام مع التوجهات الأمريكية، أو الدخول في صدام مفتوح مع واشنطن وحلفائها.
في خضم هذا المشهد المعقد، يبدو السنّة أكثر نشاطًا من أي وقت مضى. التحركات السياسية، والزيارات الإقليمية، ومحاولات إعادة التموضع، كلها تشير إلى أن هناك مشروعًا قيد التبلور، لا يقتصر فقط على استعادة الدور، بل ربما يتجه نحو رسم ملامح جديدة للعراق، يكون فيها للمكون السنّي موطئ قدم مؤثر.
ومع أن الصورة ضبابية، والتوقعات مفتوحة على كافة الاحتمالات، فإننا نحن أبناء الكلمة، نأمل أن يتمكن الكورد من الخروج من هذه المعادلة الصعبة بأقل الخسائر، بل وتحقيق بعض المكاسب إذا ما أُحسن قراءة المتغيرات. فالكورد يمتلكون اليوم رصيدًا سياسيًا وتجربة متراكمة تؤهلهم للعب دور فاعل، سواء في الداخل العراقي أو في المعادلة الإقليمية.
أما دونالد ترامب، وإن عاد إلى المشهد بقوة، فمواقفه باتت معروفة: لا يرى في السياسة إلا صفقات، ولا في القيم إلا شعارات. ورغم ذلك، فإن ما يُبقي الأمل قائمًا هو قدرة القوى الكوردية على الالتفاف حول مصلحة شعبها، وتفادي الانجرار إلى صراعات الآخرين.
العراق في عين العاصفة، ومصيره معلق بين انتخابات، وتقسيمات محتملة، وتدخلات دولية متسارعة. لكن رغم ذلك، لا يزال في الأفق بصيص أمل، لمن يحسن استثماره
وفي خضم هذا المشهد المرتبك والمفتوح على كل الاحتمالات، تبقى الدعوة موجَّهة إلى الساسة الكُورد على وجه الخصوص: لا مكان للغفلة، ولا وقت للمجاملات السياسية، فالخارطة تتغير بسرعة، والمكائد تُحاك في العلن، والاستعداد لأي مكروه لم يعد ترفًا بل ضرورة وجودية، فليقظة العقول ورصانة القرار دورٌ حاسم في حماية ما تبقى، وصناعة ما يُنتظر.