د. إبراهيم أحمد سمو
في لحظة فارقة تمر بها المنطقة، وفي مستهل افتتاح فعاليات المعرض الدولي للكتاب في أربيل، جاءت كلمة الرئيس مسعود بارزاني لتفتح أبواب التأمل أمام واقع مضطرب، وتضع النقاط على الحروف في قضايا تمس حاضرنا ومستقبلنا. لقد وجدنا في هذه الكلمة المقتضبة، رغم قصرها، قراءة دقيقة للمشهد الإقليمي والدولي، وتحليلاً عميقًا لأزمات الداخل الكوردي والعراقي. ورأينا فيها دعوة إلى التكاتف، وإشارات تحذيرية من القادم، ورسائل سياسية موجهة إلى من يعنيهم الأمر، داخل الإقليم وخارجه.
الوحدة ليست ترفًا… بل شرط وجود
نحن نؤمن، كما شدد الرئيس بارزاني، أن الوحدة الداخلية الكوردية تمثل حجر الأساس لأي مشروع سياسي أو اجتماعي ناجح. التاريخ أثبت، مرارًا، أن الكورد حين توحدوا عبروا المحن، وحين انقسموا تقهقروا وخسروا مكتسباتهم. لذلك، فإننا نرى أن الحفاظ على الصف الوطني الكوردستاني لم يعد خيارًا، بل ضرورة وجودية في ظل ما يحيط بنا من تحديات وتحولات. وندعو جميع القوى والفعاليات السياسية إلى تغليب المصلحة العامة على المصالح الفئوية، واعتماد الحوار البنّاء كسبيل وحيد لحل الخلافات.
الخرائط في المزاد والمقدسات تنهار
ننظر اليوم إلى واقع إقليمي تغلي خرائطه وتتشقق حدوده، وكأننا نعود إلى ما قبل سايكس بيكو، ولكن هذه المرة بوسائل أكثر تعقيدًا وخطورة. ما كان مقدسًا من خطوط وحدود بات اليوم مطروحًا في مزادات المصالح الدولية، تُرسم وفق صفقات سريّة أو تفاهمات آنية، لا مكان فيها للعدالة التأريخية أو لحقوق الشعوب. ونحن نرى أن ما يحدث ليس مجرد إعادة ترتيب جغرافيا، بل محاولة لتفكيك الهويات، وزرع الفتن، وخلق كيانات ضعيفة يسهل ابتلاعها أو التحكم بها. لذا، فإن الوعي الشعبي والسياسي يجب أن يكون في أعلى درجاته، لأن القادم قد لا يُبقي من القديم شيئًا.
الكورد… الضحية المستمرة للظلم التأريخي
نتذكر ونحن نتابع حديث الرئيس، قرنًا من النكبات التي حلّت بالشعب الكوردي: من حملات الإبادة إلى محاولات طمس الهوية، ومن التهجير القسري إلى الحرمان من الحقوق المشروعة. لقد كانت كوردستان دومًا ساحة للصراع، لا لأنها أرادت الحرب، بل لأنها كانت تطالب بالحرية. وندرك اليوم، كما بالأمس، أن الظلم الذي وقع علينا لم يكن عارضًا، بل ممنهجًا، نفذته دول ومؤسسات، وغُضّ الطرف عنه دوليًا. ومع ذلك، فإننا ما زلنا نختار طريق السلام، ونتمسك بحقوقنا، وندعو لحل عادل يضمن لنا العيش بكرامة في وطن حر.
الاستعداد للمجهول… واليقظة واجبة
حين يقول الرئيس إن علينا أن نتهيأ لكل السيناريوهات، فإننا نقرأ في ذلك تحذيرًا ذكيًا من احتمالات لا يمكن تجاهلها. فالأحداث في لبنان، وفلسطين، واليمن، والعراق نفسه، تشير إلى تصاعد في التوترات، وتكالب في المصالح، وتحركات قد تتجاوز قدرتنا على التنبؤ. لذلك، فإن واجبنا أن نكون على مستوى المسؤولية، مستعدين بما نملك من إرادة ووعي، وأن نواجه المرحلة بالحكمة والشجاعة، دون تردد أو خضوع للضغوط.
الدستور العراقي… الإطار المعطل
من المؤسف أن نرى أن الدستور العراقي، الذي أُقر عام 2005 بتوافق شعبي وسياسي، لم يُطبّق كما يجب. وهو رغم ما فيه من ثغرات، ما زال يشكل قاعدة قانونية يمكن البناء عليها لحل النزاعات القائمة بين الإقليم والمركز. نحن نؤمن أن العودة الصادقة إلى الدستور، بعيدًا عن الانتقائية والمراوغة، تمثل مخرجًا حقيقيًا من الأزمات، وتحفظ توازن العلاقة بين المكونات، وتعيد الثقة المفقودة.
الميليشيات خطر وجودي… والمدنية هي الحل
في ظل تفشي ظاهرة السلاح خارج سلطة الدولة، وسيطرة الميليشيات على القرار الأمني والسياسي، نؤكد ما جاء في خطاب الرئيس بأن لا دولة يمكن أن تنهض في ظل تعدد مصادر القرار. فالدولة المدنية، التي تُبنى على أساس المواطنة لا الانتماءات الطائفية أو الحزبية، هي وحدها القادرة على حماية الجميع، وضمان الاستقرار، وتكريس القانون كمرجعية جامعة. وأي حديث عن بناء دولة حديثة من دون تفكيك منظومات العنف الموازي، هو مجرد وهم.
خاتمة… صوت المرجعية الكوردستانية
لقد رأينا في كلمة الرئيس مسعود بارزاني في افتتاح معرض أربيل الدولي للكتاب، تعبيرًا صادقًا عن همّ جماعي، ونبضًا حقيقيًا للمرجعية الكوردستانية التي ظلت دومًا تنظر إلى القضايا بعين التجربة والرصانة. ونحن، إذ نثمّن هذا الخطاب، ندعو إلى تحويله إلى خارطة طريق، تنقلنا من القلق إلى الفعل، ومن التوجس إلى اليقين بأننا إذا توحدنا، وتمسكنا بحقوقنا، وواجهنا الواقع بالحكمة واليقظة، سنبقى وننتصر