مصطفى عطية جمعة
صدر كتاب ثقافة العيب في المجتمع العربي أم عيب الثقافة في عصر العولمة مؤلف جماعي إشراف ومتابعة د.إدريس جرادات عن مركز السنابل للدراسات والتراث الشعبي في سعير-الخليل-فلسطين بحجم 253 صفحة من القطع المتوسط وضم الكتاب فصل للدراسات العلمية المنهجية وفصل مقالات وفصل قصائد شعرية وفصل قصص أدبية وشعبية.
حاول الكتاب الإجابة على جملة من الأسئلة يطرحها الذهن، عندما نناقش مفهوم العيب في المجتمعات العربية، فالبعض يظن أن “العيب” هو مجرد عادات وتقاليد، وممارسات اجتماعية متعارف عليها، خاصة في المجتمعات التقليدية (الريفية، البدوية، الشعبية)، بثقافتها المتوارثة، وغالبا ما تتداخل روافد عديدة في تشكيلها، وللأسف يربطونها -أحيانا- بالدين، ويربّون أبناءهم عليها، ولاشك أن كثير من ثقافة العيب يعود إلى الدين، وبعضها يعود لمفاهيم خطأ، سادت وتقبلها الناس وتوارثوها، وجعلوها ضمن بنيتهم الاجتماعية.
لابد أن ننطلق من حقيقة أن العيب متغير، مثل أي عرف أو تقليد أو عادة اجتماعية أو مجتمعية، وبعض ما كنّا نعده عيبا ومستهجنا في الماضي، بات اليوم أمرا عاديا، ولعل المثال الأبرز على ذلك، حجاب المرأة في المجتمعات العربية: الريف والمدينة، البادية والحضر، فقد كان يعني غطاء المرأة لوجهها، بالبرقع، أو بالنقاب، أو باليشمك، ويعدّه المجتمع سلوكا ولباسا نابعا من الإسلام، بهذه الهيئة، ووفق هذه الشاكلة.
والثابت أن الإسلام أمر بالحجاب، الذي يعني كشف الوجه والكفين، وستر سائر الجسد، بثوب لا يصف ولا يشف، أما تغطية الوجه فهو فضيلة تميزت بها المرأة المسلمة العربية، وارتدته أمهات المؤمنين، والصحابيات، والعالمات الفاضلات، ثم تحول إلى تقليد انتشر وترسّخ، حتى بات عرفا اجتماعيا، تميزت به النسوة في أقطار العروبة والإسلام.
لقد كانت المرأة العربية حتى الثلث الأول من القرن العشرين مغطاة الوجه والجسد، ومع حركة التحديث والنهضة بمرجعياتها الغربية، باتت المرأة غير المحجبة، الكاشفة لشعرها، المرتدية للملابس الأوروبية نموذجا للمرأة الجديدة، في التعليم، والإعلام، وفي مختلف المهن العصرية إبان حقبة الأربعينيات وإلى نهاية السبعينيات، بل وانحصر الحجاب تدريجيا لدى الفئات الشعبية، والقرويات، وفي البادية.
المفارقة هنا، أن الحجاب والنقاب كانا زيينِ ممدوحين من كل فئات المجتمع، ثم أصبحا علامتين على التأخر والرجعية، مع التغول الاستعماري، وظهور نخبة متعلمة ارتبطت بثقافة المستعمر الغربي، ونستحضر هنا موقف السيدة صفية زغلول (1878-1943)، زوجة سعد زغلول قائد ثورة 1919، عندما ألقت بالحجاب أرضا، لدى وصولها إلى الإسكندرية، وقالت “كفانا تخلفا”، فقد كانت ثقافتها فرنسية، وتزعمت الحركة النسوية المصرية، بمقاييس أوروبية، فبات الحجاب مرفوضا أو ضمن ثقافة العيب في المجتمعات المتعلمة المتغربة، بينما هو محبوب مقبول في المجتمعات المحافظة، ليعيش المجتمع العربي ثنائية الصراع بين الحداثة والأصالة، أو بالأدق التغريب والهوية.
ثم تغيرت النظرة، بعد ظاهرة الصحوة الإسلامية في سبعينيات القرن العشرين، واكتست رؤوس البنات والسيدات بالحجاب على ملابس أنيقة واسعة، في غالبية الطبقات والشرائح الاجتماعية، وأضحت الفتاة غير المحجبة معيبة في منظور المجتمع، بل علامة على التحلل، والأوربة، والتغريب، ويُنظر لها باستهجان من شباب الصحوة، الذي غزا الجامعات العربية، ثم تسلموا الوظائف ومراكز الإرشاد والتوجيه، ليصبح النموذج الغربي موضع تساؤل.
في مثل هذه المعارك، يتوزع أهل النخبة والمثقفون إلى فرق عديدة، فريق يناصر، وآخر يهاجم، وثالث يتجمد على أفكار وقناعات آمن بها في شبابه، إلى شيخوخته، وقد رأينا الناقد الأدبي د.جابر عصفور (1944-2021)، يتحسر في أحاديثه على انتشار الحجاب في الجامعة المصرية، مشيرا إلى أنه علامة على تراجع ثقافي وفكري (معيب)، وأن الفتاة المصرية في حالة “ردة حضارية”، متناسيا أن جُلّ الأكاديميات والمثقفات والموظفات العربيات يرتدين الحجاب، ويتفوقن في مجالات علمهن وأعمالهن، وأن الإنسان ليس بزيّه، وإنما بخلقه وعمله وعطائه، وتلك مشكلة الأفكار عندما تتجمد.
وبعيدا عن مظاهر الصراع والاستقطاب الحاد حول هذه القضية، التي إذا قرأناها في منظور “ثقافة العيب” لاكتشفنا أنها معركة أفكار في الأساس، فمناصرو الحجاب يتخندقون في المرجعية الإسلامية التي ترى الحجاب فرضا على المسلمة، أما معارضوهم فهم العلمانيون، الذي يتخذون الثقافة الغربية مرجعا، والمرأة الأوروبية نموذجا.
ولاشك أن مثل هذه المعارك دالة على حيوية المجتمع العربي، وطبيعة الصراعات الفكرية والاجتماعية التي تنتابه، بما يجعلنا -نحن الباحثين الأكاديميين- نحرص على قراءة العيب بوصفه علامات سيميائية بصرية ولغوية، تظهر في الكلام، والسلوك، والملابس، وطبيعة المعيشة، وطرائق التوجيه العائلي والمجتمعي، وفي جميع الأحوال، فهو يؤدي إلى إخراج العيب إلى دائرة النقاش والجدال المجتمعي، ونزع القدسية عنه، وجعله ضمن منظومة التغيير الاجتماعي نحو الأفضل، بعد نقاش واسع.
وبعبارة أخرى، إن النظر إلى العيب على أنه متغير فكري ثقافي، وليس من الثوابت المجتمعية؛ يتيح الفرصة لنقاشه، ومن ثم إمكانية تصحيحه، ومواجهة أغاليطه.
وينهض الفن (التمثيل والغناء) بوصفه مثالا على آخر تغيّر العيب، فقد كان مثار استهجان كبير في مختلف الدول العربية والإسلامية في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، خاصة مع استيراد شكلي المسرح والسينما الأوروبيين، وتبرج الممثلات واختلاطن الفنانين بعالم الراقصات والملاهى الليلية، ومع مرور الزمن، أضحى الفن المرئي مؤثرا بشكل هائل، وبات الفنانون نجوما لامعين، ونبغ في المهن الفنية مواهب كثيرة، وشخصيات شهيرة، وتغيرت النظرة إلى الفن، على مستوى النخبة والقاعدة الشعبية، عندما وجدوا عظم تأثيره الفكري والنفسي والجمالي على الناس، وظهور اجتهادات فقهية، ترى أن الإسلام لا يحرم الفن، وإنما لابد أن يكون موجها للفضيلة والقيم النبيلة.