د. ابراهيم احمد سمو
كان جالسًا لوحده. لا أحد بقربه، ولا حوله سوى صمته الثقيل. شعر كأن الدنيا قد اختزلت في تلك اللحظة، في تلك الغرفة، في ذلك القلب المنهك. تملّكه شعور غريب، كأنه حبيس أفعاله الطيبة، سجين نواياه الصافية. وأخذ يسترجع الأيام كأنها بانوراما فيلم لا ينتهي، بلا انقطاع، بلا محطة استراحة، ولا حتى فقرة إعلانات تنذره بما سيأتي.
غاص بعيدًا في ذاكرته، فإذا به يتخيل نفسه محاطًا بجدران داره، لا بل محاصرًا في غرفته، ثم مأخوذًا دون سابق إنذار إلى محكمة غريبة. جلس هناك مذهولًا، وبدأت الوجوه تتضح… وجوه يعرفها جيدًا: معارف، أصدقاء، رفاق الأمس البعيد. ارتاح قليلًا، شعر بالأمان، فلطالما كانت الثقة زاده في علاقته بهم.
سلّم عليهم بحرارة… لا رد.
ابتسم مرة أخرى وسلّم… لا جواب.
سكوت مطبق، صمت ثقيل كأنهم تماثيل من حجر.
نظر إليهم، كلٌّ في مكانه، كلٌّ في جمودٍ تام. أحدهم يرمقه بنظرة قديمة، حادة، كأنها تحمل حقدًا دفينًا منذ زمن. وآخرون، نظراتهم كانت نظرات وداع… لا لقاء بعدها.
تقدّم بخطوات مرتجفة وسأل:
“لماذا نحن هنا؟ أي جرم ارتكبته؟ لماذا نُفيت من استراحتك وجُررت إلى هذا المكان؟”
لا رد… لا أحد ينظر إليه وجهًا لوجه.
كان المشهد أقرب إلى الإعدام… لا دفاع، ولا محكمة، ولا حاكم.
غضب المسكين، وارتفع صوته، لكن لا حياة لمن تنادي.
السكين يقترب من عنقه، والسيف يُشهر بوجهه، والسهم استقر في ظهره كعلامة: “لا تتراجع… أو تُقتل”.
حاول أن يصرخ، أن يهرب من هذا الكابوس، لكن قدميه لم تعودا له، وصوته لم يعد يسمعه أحد.
وفجأة… قام “الكبير” من كرسيه.
حمل سيفًا قاطعًا، وتقدم بخطى ثابتة.
“أي حقد هذا؟” تساءل المسكين في نفسه،
“أهو حقد لم أشعر به؟ أم كره لم ألمسه؟
هل يريدون قطع لساني حتى لا أروي الحكاية؟
هل يخشون أن تصبح قصتي أنشودة حكمة يتعلّم منها الأطفال؟”
وفي لحظة واحدة، كأنهم متفقون…
سحب الجميع سيوفهم، وضربوا ضربة واحدة… قطعوا رأسه!
لكن…
من شدة الصدمة، نهض من نومه مفزوعًا، يتصبب عرقًا.
نظر حوله، فوجد الأطفال يضحكون، وأهله يجهزون فطور الصباح.
كأس ماء على الطاولة، و”صباح الخير” يملأ المكان.
لكنه لم يبتسم. ظل صامتًا، يتأملهم بعين دامعة، ويتمتم في نفسه:
“وأسفاه على الزاد والملح، وندمًا على سنين أطعمت فيها قلوبًا جاعت… لا لتشكر، بل لتغرس السكين